Author

التطوير المؤسسي .. وضبط جودة الأحياء والمساكن

|
سألت أحد المهندسين الذين يعملون في قطاع التطوير العقاري منذ قرابة أكثر من عقدين: ما نصيحتك لوزارة الإسكان بشأن تطوير أكثر من مليون ونصف المليون وحدة سكنية خلال السنوات السبع القادمة؟ فأجابني دون تردد "ضمان الجودة" وأعني ضمان جودة التخطيط العمراني للأحياء وبناها التحتية والعلوية لجهة تحقيق أبعاد السكن الاجتماعية والصحية والأمنية والبيئية والاقتصادية، وعدم الحاجة للحفر والتكسير المستمر لتوفير الخدمات أو لصيانتها، كما أعني ضمان جودة المساكن لجهة فاعلية وجماليات تصاميم واجهاتها وتصاميمها الداخلية ومرونتها لأي تغييرات حسب تغيرات ظروف الأسرة إضافة لجودة المواد المستخدمة والمصنعية بما يضمن عدم توريط المشترين بمبالغ باهظة للصيانة الدورية. قلت له ولماذا تصِر على الجودة دون غيرها؟ قال لأن الجودة عملية محورية في توفير عناصر الحي التي تلبي متطلبات السكان الأساسية وفق المعايير، كما أنها العملية المحورية في توفير عناصر المسكن التي تلبي متطلبات أفراد الأسرة كافة وتضمن سلامة المسكن وتعاظم قيمته بمرور الزمن بما يجعله أصلا اقتصاديا كضمان يلبي شروط المؤسسات المالية الممولة للمشترين، كما أنها عملية محورية بالنسبة للممولين سواء لتمويل المشاريع التطويرية أو لتمويل المشترين لشراء الوحدات السكنية. قلت له وكيف نضبط جودة الأحياء والمساكن؟ قال في السابق لم تكن البلديات تدقق كثيرا في مستوى جودة المخططات العمرانية وهذا أدى إلى انتشار الأحياء الشبكية المتشابكة مع بعضها بعضا ومع الطرق السريعة والمحورية الأمر الذي جعلها أحياء فاقدة للخصوصية لا تحقق أيا من الأبعاد المهمة للأحياء، كما جعلها ورش عمل يمتد التطوير فيها لثلاثة عقود، أحياء ضعيفة في توثيق العلاقات الاجتماعية وتمكين السكان من الحركة مشيا على الأقدام، إلى غير ذلك من المشاكل التي لا تعد ولا تحصى، وتزامن ذلك مع طغيان التطوير الفردي للمساكن على التطوير المؤسسي بشكل كبير. وكلنا يعلم أن ضعف الخبرة لدى المواطنين أدى لمساكن متهالكة بمرور الزمن تعاني الكثير من المشكلات التي تتطلب صيانة مستمرة ومكلفة، ولقد أدى كل ذلك إلى هدر كبير لثروات المواطنين وثروات البلاد، حيث أصبح لدينا الكثير من الأحياء القديمة التي يمكن أن تصنف كأحياء عشوائية نتيجة لهذا التخبط ولذلك هجرها أهلها إلى مناطق أحدث. أما اليوم فنحمد الله فهيئات المدن وأماناتها والبلديات أصبحت أكثر وعيا ووضعت معايير أعلى للتخطيط العمراني كما أنه في الوقت ذاته زادت نسبة التطوير العقاري المؤسسي، حيث تشكل لدينا عدد لا بأس به من شركات التطوير العقاري المحترفة الكبرى والمتوسطة والصغيرة التي تعمل بصيغ تمويلية منها الصناديق الاستثمارية العقارية التي تضع ضمن شروطها: على المطور العقاري تعيين استشاري هندسي مستقل يراقب مرحلية التنفيذ والجودة، إضافة لطلبها بوليصة تأمين لجميع أنواع الأخطار، وشهادات جودة وضمانات حسن التنفيذ، إلى غير ذلك مما يضمن جودة إنتاج المساكن ومعقولية تكلفتها وبالتالي إمكانية تسويقها بأسعار منافسة. وباختصار، يمكن أن نقول إن السوق العقارية السعودية تتجه بشكل متسارع للنضج على غرار الأسواق الدولية بعد التطوّرات التنظيمية التي شهدتها في السنوات العشر الأخيرة من جهة أنظمة التطوير والتسويق والبيع والتمويل وإعادة التمويل، فما بالنا والقضية الإسكانية اليوم تحت أنظار وتخطيط ومتابعة وزارة الإسكان التي تعمل على توفير المساكن وتحقيق جميع أبعادها التنموية الأخرى وتفعيل دورها في الاقتصاد الكلي. وأقول مع الأسف الشديد ما زال وعي المواطنين بقضية الجودة متدنيا وما زال لدينا عبارة "بناء شخصي" عبارة تسويقية رغم أنها خلاف ذلك، إذ إن الفرد الذي يبني مسكنه يعاني ضعف المعرفة والخبرة، وعادة ما يكون المنزل الذي يطوره منخفض الجودة لسبب المواد أو العمالة أو التخطيط أو المصنعية أو الإشراف أثناء التنفيذ، كما أن الفرد لا يستطيع أن يستقطب أفضل المستشارين الهندسيين وأفضل المقاولين والمشرفين، بخلاف المطورين العقاريين خصوصا الذين يطورون كميات كبيرة تصل لـ 100 وحدة سكنية وأكثر حيث يمكنهم استقطاب أفضل الاستشاريين الهندسيين في مرحلة تخطيط المساكن، وأفضل المقاولين من خلال طرح مناقصات بمعايير هندسية تراعي جميع العناصر، وأفضل مكاتب الإشراف الهندسي إلى غير ذلك من عناصر ضبط الجودة. المطورون العقاريون المؤسسون لا يعملون بعيدا عن القطاع المالي وهذا سيدعم الجودة أيضا إذ يمولون مشاريعهم من خلال صيغ الأوراق المالية التي تعتبر أداة تمويل واستثمار في آن واحد تدفع بالكثير من الأموال المحلية نحو هذه القناة الاستثمارية الكبيرة والمهمة والحيوية وفق شروط رقابية عالية حيال الجودة والالتزام بالجداول الزمنية لإنتاج مساكن عالية الجودة متعاظمة القيمة التي يمكن أن تصلح كأصول ضامنة لتمويل مشتريها لمدد زمنية طويلة. بقي أن نضع نسبة مستهدفة بالنسبة لتطوير أحياء تحقق جميع متطلبات السكان الاجتماعية والنفسية والصحية والبيئية والأمنية والاقتصادية ولا تحتاج لعمليات حفر وتكسير كما هو حال أحيائنا الحالية، ونضع نسبة للمساكن المطورة مؤسسيا بجودة عالية من إجمالي المساكن المستهدف تطويرها خلال السنوات السبع القادمة ولعلها تشابه النسب العالمية، حيث يصل التطوير المؤسسي لنسبة 70 ــ 85 في المائة من إجمالي المساكن المطورة. وأتطلع أن تضع هذه النسب وزارة الإسكان وتعمل مع شركائها على تحقيقها لنوقف الهدر ونحافظ على الثروات، فالمساكن كما أنها ثروة لملاكها فهي في إجمالها ثروة وطنية أيضا إذ يمكن تسنيدها بنظام الرهن العقاري وتمويل ملاكها لتمويل مشاريعهم الصغيرة والمتوسطة على سبيل المثال. ختاما أتطلع إلى أن تقود وزارة الإسكان والشركات المطورة الكبرى ومؤسسات التمويل العقاري حملات توعية بماهية وأهمية جودة الأحياء والمساكن وسبل تحقيقهما كما أدعو صناع الرأي لترسيخ مفهوم الجودة في أذهان المواطنين لتصبح عنصرا مهما وأساسا في قراراتهم الشرائية.
إنشرها