Author

الاقتصاد .. والأمن القومي

|
لا اقتصاد بلا أمن، ولا أمن وتنمية دون اقتصاد، هكذا يمكن صياغة العبارة بأبسط أشكالها عن وصف العلاقة التبادلية بين الاقتصاد ودوره في تحقيق الرغد وتوجيه الموارد نحو الوفرة، وبين الأمن بالمفهوم الشامل. كثير من القضايا الاقتصادية ذات بعد أمني وربما سياسي كذلك، ونحن هنا لا نتحدث من وجهة نظر الأمننة، أي إضافة الصبغة الأمنية لكل شيء وأي شيء، بل من مفهوم الأمن الشامل الذي عرفه مثلا روبرت ماكنمارا وزير الدفاع الأمريكي في الستينيات الميلادية حينما وصف الأمن القومي بأنه "التنمية في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في ظل حماية مضمونة". ومن هنا تتمحور عناصر مثل الزيادة السكانية ومحدودية الموارد أمام الدول كأحد التحديات التنموية، ومن هنا إذا لم تستطع الدولة تلبية تلك المتطلبات أو التغافل عنها، سواء بسبب سوء الإدارة أو بسبب شح الموارد، فهنا تنتقل هذه العناصر من مستوى ومرحلة التحديات إلى مرحلة التهديدات، وهنا تتقاطع وتصبح القضية تهدد الأمن القومي بمفهومه الشامل. ولعل أهم القضايا النابعة التي تتقاطع على سبيل الذكر لا الحصر هي قضايا موارد المياه والطاقة والغذاء، هذا المثلث الاستراتيجي الذي يشكل تحديا لكثير من دول العالم، وهذا التحدي ذو بعدين، الأول وجود الموارد في حد ذاتها، والثاني إدارة تلك الموارد، ولعلنا نضيف نقطة ثالثة ومهمة وهي القيمة المضافة المستفادة من تلك الموارد ما بعد الاستهلاك. يعد العنصر الاقتصادي أحد أهم عناصر قوة الأمن القومي. وهناك عدة أنواع من الموارد الاقتصادية ذات التأثير في الأمن القومي، من أهمها الموارد الغذائية، فلا توجد دولة في العالم كله تحقق اكتفاء ذاتيا من الموارد الغذائية، ولا يوجد أمن غذائي بالكامل. ومن ثم، فإن كل دول العالم تعتمد بدرجة أو أخرى على استيراد المواد الغذائية وهو عامل مهم في الأمن القومي لأي دولة. وكذلك الحال بالنسبة إلى جميع الموارد الأخرى إذ لا توجد دولة على الإطلاق تمتلك الاكتفاء الذاتي منها. وتستحوذ موارد الطاقة على أهمية خاصة، ثم تأتي الموارد الاستراتيجية وخصوصا في فترات الحرب. ومن الموارد الاقتصادية الأخرى ذات التأثير في الأمن القومي الموارد الصناعية، حيث يعتبر النمو الصناعي للدولة سببا مؤثرا في قوتها. ويمكن لأي سياسة دفاعية كانت أو هجومية أن تكون ذات أثر فعال لا سيما إذا ساندتها قدرة على تصنيع آلة الحرب. ومن الأهمية بمكان إلقاء فكرة كيف اعتبر أحد علماء الاقتصاد تقسيمه للعالم من حيث الموارد، فقد قسم والرشتاين اقتصاد العالم إلى ثلاث مناطق: المناطق الطرفية، الدول الأساسية شبه الطرفية، والمناطق المحيطة أو الطرفية وهي الأقل نموا. وذكر والرشتاين أن الدول الكبرى أو الأساسية تقوم باستغلال الدول الطرفية للعمالة الرخيصة، والمواد الخام، والإنتاج الزراعي. أما تلك المناطق شبه الطرفية فهي تلعب دور وسيط إلى حد ما، وتقوم ببعض الأدوار كذلك في استغلال المناطق الطرفية. هذه الدول الأساسية تعزز تراكم رأس المال داخليا من خلال السياسة الضريبية، والمشتريات الحكومية، ورعاية البحث والتطوير، وتمويل تطوير البنية التحتية "مثل شبكات الصرف الصحي والطرق والمطارات والبنى التحتية التي يتم تنفيذها من قبل القطاع الخاص ولكن بتمويل من القطاع العام"، وتقوم كذلك الدول الأساسية على الحفاظ على النظام الاجتماعي للحد من الصراع الطبقي، و تشجع تراكم رأس المال في اقتصاد العالم نفسه. هذه الدول الكبرى لديها السلطة السياسية والاقتصادية والعسكرية لفرض أسعار غير متكافئة التبادل بينها وبين الدول الطرفية. ومن هذه السلطة التي تسمح للدول الأساسية بتفريغ البضائع غير الآمنة مثلا في الدول الطرفية، استغلال الهامش على اليد العاملة الرخيصة، ووضع وتطبيق براءات الاختراع. إنها القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية الأساسية التي تسمح لثروات ضخمة من المال أن تتراكم وتكون في أيدي عدد قليل من الناس، والنظام العالمي الرأسمالي الذي ينتج ويحافظ على عدم المساواة الاقتصادية والسياسية الجسيمة داخل الدول وفيما بينها. وتتنوع أساليب التوظيف السياسي لعناصر القوة الاقتصادية لدولة ما في مواجهة الدول الخارجية. ومن أهم تلك الأساليب الأسلوب القائم على تقديم الحوافز الاقتصادية، للدول الخارجية، والأسلوب القائم على توقيع العقوبات والجزاءات الاقتصادية. وهنا تلعب الدراسات الاستراتيجية والإحصائيات دورا مهما وفعالا في فهم التحولات الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية والتقنية، وكذلك التفاعلات البيئية الإقليمية والوطنية، وأثرها في الموارد من طاقة وماء وغذاء، في تحديد الرؤية والأهداف، وكذلك تحديد الأولويات للسياسات الوطنية والإقليمية المشتركة، وتوجيه الاستثمارات الاقتصادية ومعرفة كيفية الاستغلال الأمثل للموارد لتحقيق الأهداف بالشكل الذي يلبي احتياجات المجتمع بشكل مستقبلي و مستدام تعزيزا للأمن والتنمية.
إنشرها