Author

عمال المعرفة .. من هم؟ وكيف نستفيد منهم؟

|
أطلق "بيتر دركر"، عالم الإدارة الشهير، تعبير "عمال المعرفة" عام 1959؛ وقدم تعريفا لهؤلاء العمال يقول إنهم "أولئك الذين يعتمدون على المعرفة كرأسمال لهم"، ثم أضاف "إنهم يفكرون كي يعيشوا". ولعل هذا التعريف لا يبدو واضحا بالقدر الكافي للتعرف بشكل محدد على "من هم" عمال المعرفة. فالمعرفة رأسمال لكل إنسان تمكنه من أداء نشاطات كثيرة في الحياة شخصية واجتماعية ومهنية، بل تساعده على تطوير هذا الأداء باتجاه تحقيق ما يتطلع إليه. إن لكل منا رأسمال من المعرفة، ويحتاج أيضا إلى التفكير، بل ينطبق عليه التعبير أنه "يفكر كي يعيش". ولعل من المفيد ملاحظة أنه حتى بالمعرفة والتفكير، فإن الإنسان قد يخطئ أو قد يصيب، فليس في المعرفة والتفكير دائما نتائج مضمونة، لكنها بالطبع أكثر موثوقية. والتفكير يقضي بأن الوقوع في الخطأ يجب أن يكون درسا نتعلمه، أي معرفة مضافة نكتسبها، ونستفيد منها لمنع تكرار الخطأ، لأن "المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين". وبنظرة أكثر عمقا إلى ما سبق، أي بالنظر إلى المهن المختلفة على أساس مدى "رأس المال المعرفي" الذي تحتاج إليه، ومدى "التفكير" الذي تتطلبه، يمكن تحديد أكثر هذه المهن حاجة إلى رأس المال المعرفي وإلى التفكير. فمن هذه النظرة يمكن التعرف على أكثر من ينطبق عليهم وصف "عمال المعرفة"، أي أولئك القادرون على أداء المهن الأكثر طلبا لرأس المال المعرفي والأكثر حاجة إلى التفكير. ولعله يمكن تقسيم متطلبات العمل في المهن المختلفة على أساس المعرفة والتفكير إلى أربعة مستويات رئيسة. في المستوى الأول تأتي المهن التي تعتمد على "مهمات متكررة" يقوم بها الإنسان ربما تكون يدوية أو تكون بمساعدة الآلة. وينطبق هذا الوصف على كثير من مهن الخدمات، ومهن خط الإنتاج في المصانع المختلفة. مثل هذه المهن تحتاج إلى معرفة أساسية بالمهمات المطلوبة، وتحتاج أيضا إلى مهارات خاصة للتنفيذ. لكن رأس المال المعرفي فيها محدود، وكذلك مدى التفكير المطلوب، كما أن إيقاع التجدد المعرفي فيها بطيء، خصوصا مقارنة بالمستويات التالية. ولعلنا نطلق على عمال هذه المهن تعبير "عمال المعرفة الأساسية"؛ ويطلق عليهم أيضا تعبير "عمال الياقة الزرقاء". وتبرز في المستوى الثاني مهن ذات مهمات متكررة أيضا، لكنها "ذات طابع معرفي"، حيث تحتاج إلى رأسمال معرفي مرتفع، كما تتطلب متابعة وتجددا معرفيا مستمرا. وبين أصحاب مثل هذه المهن: المدرسون؛ والمحامون؛ والمديرون؛ وغيرهم. ولعلنا نطلق على عمال هذه المهن تعبير "عمال المعرفة المهنية"؛ ويطلق عليهم أيضا تعبير "عمال الياقة البيضاء". وفي المستوى الثالث نجد مهن "البحث والتطوير" والعاملون في هذه المهن هم "عمال إنتاج المعرفة". وينتسب أساتذة الجامعات إلى هذه المهن جزئيا وليس كليا لأنهم يقومون بمهمة التدريس المتكررة، إلى جانب قيامهم بالبحث والتطوير، ضمن مجموعات بحثية غالبا ما تضم طلابا في مراحل الدراسات العليا. وقد يؤدي استخدام التعليم الإلكتروني في الجامعات على نطاق واسع إلى الحد من عملية التدريس المتكررة عبر محاضرات مسجلة مسبقا، ليأتي ذلك في صالح وقت أكبر للنقاش والشراكة في التفكير والإبداع. إذا توسعنا في المستوى الثالث نجد أنفسنا في المستوى الرابع، وهو مستوى المهن التي تحتاج إلى رأسمال معرفي متميز، وتحتاج أيضا إلى تفكير متميز يستند إلى خبرة وربما أيضا إلى رؤية. أصحاب مثل هذه المهن هم المبدعون والكتاب والباحثون المتميزون وأصحاب الخبرات الخاصة في المجالات المختلفة. وكثيرا ما نجد هؤلاء في "مراكز التفكير" التي تحدثنا عنها في مقالات سابقة؛ ولهذه المراكز أشكال متعددة تتبع جهات مختلفة. قد نجد مراكز التفكير مستقلة وغير ربحية، تتلقى تبرعات من جهات متنوعة وتقدم خدمات معرفية وفكرية عامة. وقد نجد هذه المراكز مرتبطة بجامعات، وتفعل ما يشبه ذلك أيضا، مضافا إليه قيامها بتأهيل الشباب المتميزين للعمل المعرفي في إطار برامج خاصة للدراسات العليا. وربما تبرز هذه المراكز كذلك كشركات استشارية تقدم خدماتها للقطاعات المختلفة الحكومية والخاصة. كما يمكن أن يكون لكل مؤسسة أو إدارة حكومية كبرى مراكز تفكير خاصة بها تساعدها على التخطيط ورسم خطى تطورها، كما تساعدها أيضا في حل مشكلاتها وضبط خطى مسيرتها إلى الأمام. المبدعون والكتاب والباحثون المتميزون وأصحاب الخبرات الخاصة والعاملون في "مراكز التفكير"، الصغيرة منها والكبيرة، هم من سنطلق عليهم تعبير "عمال المعرفة". فهم الأكثر حاجة إلى "رأس المال المعرفي المعزز بالخبرة"، وهم الأكثر حاجة إلى "التفكير" كي يعملوا على "الاستجابة" للمشكلات التي تطرح عليهم. ليس ذلك فقط، بل كي يقوموا أيضا "بدراسات استباقية" لمشكلات يرون أنها يمكن أن تطرأ وتحتاج إلى حلول سريعة. فمثل هذه الدراسات تعطي جاهزية للاستجابة إلى طوارئ محتملة تحمي من تداعيات غير محمودة. وفي دراسة حول عمال المعرفة صادرة عن الأمم المتحدة عام 2008، يطرح "وليم شيريدان" ثلاثة منطلقات يجب أن تميز منظومة تفكير عمال المعرفة. أول هذه المنطلقات "الواقعية" التي تقضي باستيعاب شامل للمعرفة التي تقدمها المعطيات القائمة، والتعرف على الحقائق دون خيال أو إيهام. أما المنطلق الثاني فهو "العملية" في التفكير، ويتضمن ذلك حساب الإيجابيات والسلبيات واختيار التوجهات على أساس مدى جدواها. ويهتم المنطلق الثالث بضرورة وجود مدى "للتسامح" والمرونة في التعامل مع الآخرين، وفي ضبط مسيرة الأعمال المطروحة استجابة للتغيرات الطارئة. لدينا، من أهل الخبرة ومن أصحاب الدرجات العلمية العليا، مؤهلون كثيرون ليكونوا "عمال معرفة"؛ بل ولدينا أيضا من يعملون فعلا كعمال معرفة في مختلف المجالات. هؤلاء هم أصحاب الرصيد المعرفي الأكبر في المجتمع، وأصحاب التفكير الأكثر نضجا أيضا؛ وعلى ذلك فهم الأقدر على تقديم المشورة في مختلف المجالات. ولكن لابد لهؤلاء أيضا من "الشراكة المعرفية والفكرية مع الجميع على مختلف المستويات سابقة الذكر" كي يكون إطار الصورة أشمل وتفاصيلها أوضح. نريد "مراكز تفكير" تجمع عمال المعرفة لدينا وتفعل نشاطاتهم في مختلف المجالات. قد يكون من المفيد التعامل مع مؤسسات استشارية دولية في قضايا نحتاج إليها، ويملكون الخبرة فيها، لكن ذلك يجب أن يكون عبر "عمالنا المعرفيين"، في إطار شراكة في العمل وتراكم في الخبرة. إنهم ضمان "لفهم أعمق لقضايانا"، ورصيد "لخبرة متنامية" تعزز قدرتنا في مواجهة قضايا المستقبل.
إنشرها