Author

مشروع عملاق .. وغير مسبوق

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
يتأهب الاقتصاد السعودي خلال المرحلة الراهنة للخلاص من الاعتماد شبه الكلي على النفط، والخروج إلى منطقة رأسمالها الإنتاج بأعلى درجات الكفاءة الممكنة، والعمل تحت مظلّة المنافسة الكاملة. سيُترجم هذا الاستعداد والتأهب على أرض الواقع، من خلال منظومة عمل متكاملة واسعة النطاق، تنطلق من نواة المجتمع ممثلة في الفرد نفسه، انتهاء إلى المكونات الكبرى للاقتصاد الوطني في القطاعين الحكومي والخاص، وما أكثر ما بين البداية والنهاية من أطراف ومتغيرات ذات علاقة، ليس بالاقتصاد الوطني فحسب، بل بكل المقدرات والمكونات المُشكَّلة للوطن العزيز، وذلك باختصار شديد جدا هو مضمون المشروع العملاق الذي حمل عنوان "برنامج التحول الوطني". بكل تأكيد؛ لم يعد ممكنا على الإطلاق استدامة حالة الارتخاء الاقتصادي الراهنة، في الوقت الذي نمتلك فيه موارد بشرية ذات تميّز علمي وعملي، ومقدرات مادية هائلة جدا لا من حيث القيمة ولا من حيث جدواها الاقتصادية والاستثمارية. في الماضي؛ اعتدنا إبّان حقبة تراخي أسعار النفط، التي زامنها تراجع النمو الاقتصادي، وارتفاع الدين الحكومي، وغيرها من التعثّرات الاقتصادية المتعددة، على تعليق الأسباب في عنصر "تراجع الأسعار العالمية للنفط"، وأنّ ما حدَّ من تفاقم الآثار السلبية آنذاك؛ هو العمل بسياسات اقتصادية "حصيفة"، ولولاها كنّا واجهنا نتائج وخيمة. حيث إنه عندما شهدنا تحسّنا غير مسبوق في الأسعار العالمية للنفط، دفعتْ بدورها إلى تحسّن أغلب مؤشرات الأداء الاقتصادي والمالي، فلا بد أنْ يعقب عزو الأسباب لتحسّن أسعار النفط، إنْ أردت الحقيقة؛ العامل المحرّك هو النفط. أثبتتْ مسيرة الاقتصاد الوطني طوال أربعة عقود ونصف العقد، أنّ اعتماده على النفط ظل يزداد عقدا بعد عقد، وأنّ السياسات الاقتصادية أمام تزايد حجم الاقتصاد وتحدياته التي يواجهها، وتعاظم المتطلبات الإنمائية للمجتمع، أصبحتْ أقل شأنا من أنْ تنجح حتى في مجاراة أدنى التحديات أو المتطلبات، بل تحوّل بعضها إلى عقبة كأداء في طريق استثمار الفرص والمبادرات الواعدة لدى الشرائح الشابة في المجتمع. نعم، تمكّنت العوائد المرتفعة للنفط من "ترقيع" تشققات عديدة، لكن سرعان ما انكشفتْ حقيقتها على الرغم من ارتفاع أسعاره، لعل من أبرز تشققاته: البطالة، أزمة الإسكان، التباين الكبير في الدخل بين الأفراد، وأمام مثل هذه الحقائق، يا تُرى كيف سيكون عليه الحال تحت ضغوط انخفاض أسعار النفط؟! لقد أوصلنا "الاعتماد على النفط مع استمرار تشوهات الاقتصاد الوطني، إلى عدد من النتائج المكلّفة جدا، التي سنواجه أمام تعاظمها مستقبلا أكثر صعوبة، لا يوجد لدينا أي ضمانات كافية ومأمونة بالقدرة على تجاوزها حينئذ، حتى إنْ عادتْ أسعار النفط إلى الارتفاع، لعل من أبرزها الارتفاع المتصاعد لفاتورة المعونة الحكومية المعممة على الطاقة والوقود والغذاء، نتيجة الاستهلاك المفرط للطاقة، المقترن بانخفاض تكلفتها، وامتلاء الأسواق المحلية بالمعدات والسيارات والأجهزة الكهربائية ذات الكفاءة المتدنية في استهلاك الطاقة، وافتقار ثلاثة أرباع المباني لمواد العزل الحراري، علما بأنّ أثقال ذلك الدعم المعمم بوضعه الراهن، يظل مرشّحا للارتفاع مستقبلا بصورة أكبر في ظل ثبات وجمود السياسات الاقتصادية الراهنة. على أنّه من الضرورة بمكان هنا، الإشارة إلى أن أكثر من ثمانية أضعاف ذلك الدعم الحكومي المعمم، قد ذهب إلى الأُسر الثرية على حساب الأُسر المستهدفة به، التي لم تحظ بأكثر من 10 في المائة منه في أحسن الحالات. تُبذل في الوقت الراهن جهودٌ تستحق الدعم، وأن يتكاتف الجميع حولها لتحقق المزيد من النجاح، وهي المتمثّلة في مبادرات تحسين كفاءة الطاقة في المملكة، التي يقف خلفها المركز السعودي لكفاءة الطاقة، الذي يضم فريق عمله أجهزة حكومية وكبرى منشآت القطاع الخاص. إلا أنّه غير كاف وحده ليقوم بما نصبو إليه جميعا، لإيجاد اقتصاد أكثر حيوية وديناميكية وحرّية ومنافسة، يستحق هذا الهدف البعيد والكبير الحجم، جهدا أكبر وأعمق على كل المستويات لدينا، وأنْ ينصب الاهتمام عليه من قبل كل الأجهزة والمؤسسات والمختصين، للمساهمة الفاعلة في نقل اقتصادنا إلى موقع يتمتع فيه باستقلالية ومتانة أكبر، بعيدا عن النفط وإدمانه. من هنا، تتأكّد أهمية إيقاف مواصلة السير في تشعبات الطريق الوعر المبيّن أعلاه، والأهمية القصوى للانتقال بالاقتصاد الوطني إلى مسار مختلف كليا، يكون ذلك وفق منظومة عمل متكاملة لا تغفل أي جزء من أجزائه، مبتعدة عن اتخاذ أي من الحلول الجزئية أو المؤقتة، التي أثبتت التجربة أن ضررها أكبر بكثير من نفعها، وأنّ آثارها السلبية سرعان ما تتفاقم في مراحل لاحقة. إنّ ما يحمله البرنامج الوطني للتحول من مشروعات تنموية وحيوية للبلاد والعباد، وانطلاقه من مبادئ غير مسبوقة، تمثّلت في صهر طروحات كل الأطراف في بلادنا العزيزة، بدءا من الأجهزة الحكومية ومنشآت القطاع الخاص وصولا إلى الأفراد بمختلف شرائحهم، ليتشكّل في نهاية صيغته الكاملة كمشروع أسهم في بنائه الجميع، هو ذاته الرؤية الشاملة التي طالما نشدناها جميعا طوال العقد الأخير على وجه التحديد، والأقوى فيها أنّها صُممت على أساس متين من مؤشرات قياس الأداء الدورية، وهل حققت أهدافها فعلا أم لا، على عكس ما اعتدنا عليه سابقا.
إنشرها