Author

اقتصاد الثقافة

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"بلا ذاكرة، يعني بلا ثقافة، بلا حضارة، بلا مجتمع، بلا مستقبل" إيلي ويسيل كاتب وأستاذ روماني مثيرة هي الأرقام الأخيرة التي أعلن عنها حول إيرادات القطاعات الثقافية والابداعية العالمية. والإثارة فيها، ليس لأنها مرتفعة، بل لكونها تجاوزت إيرادات قطاع الاتصالات الذي يفترض أنه يسيطر على الساحة العالمية. ومما لا شك فيه، أن الثقافة بكل قطاعاتها، تشهد ازدهارا ملحوظا حتى في ظل الانكماش الاقتصادي في بعض البلدان، وتباطؤه في بلدان أخرى. واللافت أن هذا الازدهار أتى في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية. أي أن الثقافة (بأدواتها جميعا)، ظلت محورا حاضرا في الحراك الاقتصادي، في أوقات الازدهار وأزمنة الركود. وأثبتت البلدان التي حظيت بالنصيب الأكبر من عوائد الثقافة، جادة ليس في الدعم، فهذا أمر محصور في بلدان باقتصادات ريعية، بل بتوفير التسهيلات اللازمة، والمرونة في القوانين الخاصة بالحراك الثقافي كله، من نشر إلى سينما إلى هندسة فنية ومعمارية، مرورا بالتلفزيون والفنون البصرية والألعاب الإلكترونية وغيرها. لم يكن تدني أرقام البلدان العربية في عوائد الثقافة مفاجئا. لأسباب عديدة، لعل أهمها، أن غالبية البلدان العربية لا تنظر إلى هذا القطاع كجهة تنموية محركة للاقتصاد، بل إن بعض البلدان تتعامل معه كنوع من الكماليات بكل أدواته وفروعه. بما في ذلك الجانب الخاص بالنشر. فقد توصل الباحثون إلى نتيجة لا تحتاج لهم أصلا، وهي أن العالم العربي يعاني أزمة قراءة استفحلت خاصة لدى الأجيال الجديدة. ووفق الإحصاءات الجديدة، فإن الفرد العربي يقرأ لمدة سبع دقائق فقط في العام الواحد! في حين ترتفع النسبة بصورة لا يمكن مقارنتها في دول أكثر تخلفا. هذا الأمر ليس جديدا، ويظهر جليا في تراجع وتيرة النشر، بل وإغلاق العشرات من دور النشر سنويا في العالم العربي مطابعها، لتفادي مزيد من الخسائر. الأمر نفسه ينطبق على النشر الإلكتروني. قطاع الثقافة العالمي لا ينافس قطاع الاتصالات فحسب، بل يتحداه. ووفق المسح الأخير لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو)، فإن القطاعات الثقافية والإبداعية تساهم في 3 في المائة من إجمالي الناتج العالمي، وأنها توظف ما لا يقل عن29.5 مليون شخص حول العالم. وتصل عائدات الأوساط الثقافية والإبداعية من إعلانات وهندسة معمارية وكتب وألعاب إلكترونية وموسيقى وسينما وصحف ومجلات وعروض حية وتلفزيون وفنون بصرية، إلى 2250 مليار دولار. وترتز المناطق التي تحفل بهذا الحراك الثقافي- الاقتصادي في آسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية، بحيث فاقت القارة الآسيوية أوروبا في هذا المجال. علما بأن هناك مناطق تتفوق على غيرها في مجالات محددة، وتتراجع في مجالات أخرى، لكنها جميعا تتنافس في الإنتاج الثقافي بكل مكوناته. وعلى سبيل المثال، أظهرت الأرقام الرسمية في الصين، أن صناعة الثقافة في هذا البلد ولدت عوائد بلغت 296 مليار دولار في عام 2013. وهو ما يعادل 3.5 في المائة من إجمالي الناتج المحلي لثاني أكثر اقتصاد في العالم. وإذا ما أضفنا الاستثمارات في قطاع البحوث إلى الحراك المالي الثقافي، فإننا بالفعل أمام اقتصاد ثقافة معرفي. ورغم الأزمات التي أوجدتها الأزمة الاقتصادية العالمية في عام 2008، فقد ارتفع حجم الإنفاق المحلي الإجمالي على البحث والتطوير في غالبية البلدان التي نالت منها الأزمة، ولاسيما الدول الكبرى. فقد ارتفع هذا الإنفاق من 1132 إلى 1478 مليار دولار بين عامي 2007 و2013. وفي حين استحوذت الولايات المتحدة على 28 في المائة، تقدمت الصين (مرة أخرى) على أوروبا باستحواذها على 20 في المائة، بينما وصل الإنفاق الأوروبي عند حدود 19 في المائة. لكن هذا لا يعني عدم وجود من يخشى من الاستثمار في الثقافة، حتى في البلدان الغربية المتقدمة. فهؤلاء موجودون طالما وجد الانتماء المحافظ في التعاطي مع المتغيرات العالمية على مختلف الأصعدة. غير أنهم أيضا فقدوا "أسنانهم" وما عادوا يمثلون قوى ضغط مؤثرة على الساحات المحلية. ولهذا السبب، لم يتأثر حراك القطاع الثقافي والإبداعي العالمي سلبا في السنوات القليلة الماضية، وكذلك الأمر بالنسبة لقطاع البحوث والدراسات والابتكار. علما بأن بعض البلدان الغربية، لم تشهد تقدما ملحوظا بهذا الشأن، إلا أنها سرعان ما عرفت فداحة الأخطاء التي ترتكبها. فالتقدم الصيني في هذا المجال يعتبره البعض في البلدان المتقدمة حافزا لمواصلة التنمية والتقدم في هذا القطاع الحيوي المستقبلي، خصوصا بعدما ثبت، أن هذا القطاع ليس"عالة" بل مصدرا للدخل، بدليل أن عوائده فاقت عوائد قطاع الاتصالات نفسه.
إنشرها