Author

التوازن الاقتصادي .. وضغوط سوق العقار

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى
كل عام وأنتم بخير، ونسأل الله الكريم أن يعيد هذا العيد على الأمة الإسلامية بالعزة والغلبة والنصر من عنده. في هذا العيد يأتي يوم الوطن، أدام الله عز هذه البلاد لرفعة الإسلام وأهله، كما هي الآن وستظل دائما على ذلك ــ بإذن الله ـــ. ومع العيد يصعب أن تجد مقالة اقتصادية تناسب الحدث، لهذا أحب أن أقدم وجبات اقتصادية خفيفة، ولعلي أختار هذه العبارات الرائعة التي وردت في أحد الكتب المدرسية في علم الاقتصاد، "فالاقتصاد ليس علما دقيقا، ومع ذلك فهو أكثر من مجرد فن، نحن لا نستطيع أن نعرف ما سيحدث في العام المقبل على وجه الدقة، لكن مع ذلك لا يمكن لأي بنك أو مؤسسة كبرى أن تذهب إلى منجمين بدلا من استشارة عالم في الاقتصاد" ـــ (انتهى الاقتباس)، إنه يريد أن يقول باختصار إننا معشر الاقتصاديين لا نعرف كثيرا مما سيحدث غدا، ومع ذلك فإننا نمتلك الجرأة أكثر من غيرنا على الحديث عن هذا المستقبل، ولعل هذه جرأة تأتي من حقيقة أن جميع التنبؤات سواء كانت صحيحة أو خاطئة سرعان ما تنسى. لهذا يجب على المحللين الاقتصاديين أن يتحدثوا دائما عن المستقبل أكثر من حديثهم عن الماضي، ويجب أن يظهر هذا الحديث وكأنه علمي موثوق به وليس مجرد تكهنات وتخرصات، وهنا تكمن المشكلة بالضبط. فالتناقض يظهر في أن الاقتصادي الذي يتنبأ بالمستقبل يستخدم من أجل ذلك كل المعلومات التي جمعها "عن الماضي"، على أساس أن ما يعتبر علميا هو الذي يستدل بما حدث في الماضي. لكن هذا ليس بالضرورة صحيحا ولا يحمل قيمة منطقية، فلماذا نعتقد ذلك ويصدق الناس ما يقال إذا جاء على هذا النحو. لعل الإجابة تأتي من فلسفة "هيوم" بأنه حكم العادة أو ما قال عنه جابر بن حيان "مجرى العادة". وهو فخ نفسي نستخدمه نحن البشر حتى نتعايش مع هذا الكون المرعب، علينا أن نؤمن بأن ما حدث في الماضي سيتكرر حتما كعادة، فبدون ذلك سنفقد صوابنا وقدرتنا على الحياة والتأقلم. فمن يستطيع أن يرمي بثروته في سوق المال أو بناء الشركات لولا إيمانه بمجرى العادة. ولهذا نؤمن ـــ مثلا ودون دليل قاطع ـــ بأن الدورات الاقتصادية موجودة فعلا، وأنها كالرحى تدور بنا. ورغم هذا الضعف الذي يحمله علم الاقتصاد كلازمة له فإن أهم قضية تسحرني في هذا العلم هي مفهوم التوازن، وسحر هذا المفهوم ينبع من أنه لا يعني التساوي، بل هو الاستقرار الذي يمنع من السقوط والدمار. التوازن وليس الميزان هو عجيبة من عجائب الدنيا، وفي اعتقادي أنه سر من أسرار الله في خلق هذا الكون. التوازن حيث تجد الأشياء علاقتها الصحيحة بين بعضها ـــ ولو بالقوة ــــ لتمضي الحياة حتى لو كانت بعض الأشياء في وضع لا يناسبها أو ليس ما تطمح إليه. دائما ما يجد الاقتصاد توازنه حتى في أيام الحروب والسلم أو في أيام الكساد والازدهار. هذا التوازن هو مطحنة الاقتصاد ومطرقته الاجتماعية الهائلة، ولا يحابي أحدا، ويعاقب على الأخطاء بقسوة. إنه قادر على تحريك البشر والجماعات وتحريك السلع ونقلها من أرض إلى أرض، وبه تجدب المزارع وبه تنتعش. التوازن يوجد الاحتكار في وقت ويقتله في وقت آخر، يبدأ المنافسة وينهيها. وفي كل مرحلة من هذه المراحل تجد التوازن هو أصل القصة وموضوع الحركة. من يعتقد أنه قادر على التأثير في الأسواق أو التلاعب بها، من يتصور أنه قادر على خلخلة النظام الاقتصادي ويفرض وجهة نظره على الأسواق بالقوة أو الثروة أو النظام، فإنه قد ينجح مؤقتا في إجبار كل الاقتصاد وما يحتويه من سلع وموارد وبشر على الاستجابة إلى هذه التحولات التي يفرضها بقوته، لكنه يجهل أنه يخلخل التوازن العام، فسرعان ما تتحرك القوى الخفية في اتجاهات التوازن الجديدة المفروضة، ويوفر هذا الحراك قوى ضغط هائلة تقود إلى خلخلة النظام الهش الذي فرض بالقوة. فمثلا عندما تتلاعب بعض القوى في السوق المالية من أجل فرض أسعار أعلى من الأسعار الحقيقية للأسهم والتي تعكس تدفقاتها النقدية، فسرعان ما تنهار السوق كلل، لتجر الجميع نحو تأرجح خطير قد لا يصمد أمامه إلا قليل من المحظوظين، ثم تستمر في ذلك التأرجح حتى تجد توازنها المطلوب. من يعي ذلك يدرك أن التلاعب في موازين الاقتصاد سيجر الجميع نحو مخاطر هائلة، ولهذا فإنني أحب دائما ترك السوق تعمل بآلياتها القوية، لا أحب فكرة التدخل بأي شكل، سوى في تنظيم تدفق المعلومات إلى السوق بشكل عادل ومتساوٍ. في سوق العمل وسوق العقار نحن نجر الجميع نحو تأرجح لا نعرف قوته ولا أين ستجد السوق توازنها بعده وكيف. المشكلة أننا نعتقد أننا نمسك بزمام الأمور ولا نسمح بهذا التأرجح أن يحدث. وهذا أكبر فخ نفسي تقع فيه الحكومات، إنها بفضل القوة القانونية وتحكمها في كمية النقد تعتقد أنها توجد التوازن الاقتصادي الصحيح. لكن التوازن الصحيح لا يتحكم فيه البشر، بل هو الذي يتحكم في البشر. هناك خلل خطير في سوق العقار والعمل ولا نعرف التأثير الذي سيحدثه ضغط التوازن إن بدأت سلسلته في جرنا بقوة. هناك تغيرات في القوى الضاغطة تشمل احتمالات خفض الميزانية العامة للدولة، وضغوط أخرى قد تنشأ من ذلك مثل عدم قدرة القطاع الخاص على توفير وظائف جديدة، وما زلنا ننتظر وضوح الصورة في أسعار الفائدة.
إنشرها