Author

السعر العادل للأراضي في السعودية

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
أجريت دراسة عن أوضاع السوق العقارية في السعودية قبل عقد ونصف من الزمن، أعدها مركز البحوث في جامعة الملك سعود آنذاك، وتوصل إلى عدد من النتائج التي ترجمها فريق الدراسة في ختامها إلى عدد من التوصيات. كان من تلك النتائج ما يتعلق بتحديد العوامل المؤثرة في سعر الأراضي والمساكن، جاءت نتائج محددات أسعار أمتار الأراضي السكنية حينئذ، لتعكس في أجزاء كبيرة منها درجات توافر الخدمات المختلفة (سفلتة الطرق، المياه، الكهرباء، الهاتف، المدارس)، وكما يلاحظ القارئ الكريم أن الدراسة لم تأخذ في اعتبارها عددا من العوامل الأخرى التي تنامت احتياجات السكان إليها، كخدمات المستشفيات والمراكز الصحية، وخدمات الصرف الصحي، وتوافر الحدائق العامة، وحسن تخطيط الشوارع، وغيرها من الخدمات العديدة، هذا عدا ما يتعلق بمستويات الدخل للفرد، إضافة إلى حالة الاقتصاد الكلي ومستويات الإنفاق الحكومي بالدرجة الأولى، والنمو السكاني، وتوزيع السكان (التركز السكاني)، والسياسات الاقتصادية المختلفة، وغيرها من العوامل التي لا شك أن لها آثارا مباشرة وغير مباشرة في تحديد سعر الأرض. ما يهم هنا في المقال؛ أن نتائج الدراسة عكست أمرا لافتا جدا، يتعلق بأثر توافر تلك الخدمات أو ضعف توافرها! فكلما توافرت الخدمات بصورة واسعة انخفضت مساهمتها في مكون السعر. والعكس صحيح؛ كلما تقلصت الخدمات ارتفعت أهميتها ووزنها في تحديد السعر! وإليك النتيجة التي توصلت إليها الدراسة بالنسبة لأكبر خمس مدن في السعودية، حيث جاء التوزيع النسبي لسعر متر الأرض السكنية على النحو الآتي: 25.6 في المائة (سفلتة الطرق)، 50.7 في المائة (المياه)، 6.4 في المائة (الكهرباء)، 4.4 في المائة (الهاتف)، 12.8 في المائة (قرب المدارس). لعلك تلاحظ أن النسبة الأكبر (نصف سعر متر الأرض) قد جاءت لمصلحة خدمات المياه! وهي الخدمة التي كان يعاني نقصها أغلب المدن السعودية، فيما ستلاحظ النسبة الدنيا لكل من الهاتف والكهرباء، وعلى الرغم من الأهمية القصوى للأخيرة (الكهرباء)، إلا أنها وبسبب توافرها بصورة واسعة جدا، جاءت حصتها النسبية من السعر ثاني أدنى نسبة بعد الهاتف. تشير تلك النتائج إلى عدد من المؤشرات البالغة الأهمية؛ من أبرزها: (1) إنه كلما توافرت خدمات البنى التحتية واتسع نطاقها أفضى ذلك إلى انخفاض احتقان الطلب! أي أنه كلما توسع انتشار تلك الخدمات وأصبحت متوافرة في أكبر عدد ممكن من مخططات الأراضي أدى ذلك إلى انخفاض الأسعار! (2) بمقارنة هذه النتائج بالوضع الراهن؛ فإنك ستكون أمام حالة أخرى تتنافى تماما مع نتائج تلك الدراسة، أو بمعنى أدق تتنافى مع حالة السوق العقارية قبل أكثر من 15 عاما (كان متوسط سعر متر الأرض السكنية المطورة آنذاك دون 400 ريال للمتر المربع)! ففي الوقت الراهن، قد تجد نفسك أمام أراض قفار خالية من أي نوع من التطوير، بل في مواقع بعيدة جدا عن المرافق الحكومية والأهلية اللازمة لخدمة الأحياء السكنية، غير أن سعر المتر المربع يراوح بين 2000 و4000 ريال للمتر المربع أو حتى أكثر! فماذا يا ترى هي مكونات هذا السعر لمتر أرض خام لا تتوافر لديها أية خدمات تذكر، الذي تجاوز على أقل تقدير خمسة أضعاف مستواه لمتر أرض مطورة قبل نحو عقد ونصف من الزمن؟ (3) ما تقدم أعلاه يعيدنا إلى المربع الأول؛ المربع الأخطر الذي سبق للكاتب وغيره من المهتمين بالسوق العقارية الإشارة إليه في أكثر من مقال ومقام، أن مكونات السعر في الوقت الراهن لا تعكس سوى تفاقم أشكال احتكار الأراضي دون أي تطوير لها أو إحياء، ما أدى بدوره إلى شح عرضها وسحبها تماما من الاستخدام، تلاه تفاقم عمليات المضاربة المحمومة على الأراضي من أصحاب المدخرات الباحثين عن فرص للاستثمار ولم يجدوها، ليتحول شراء الأراضي لأجل المضاربة فقط، لا لأجل الانتفاع منها واستخدامها للغرض الرئيس منها. (4) لتعلم أي خطر اقتصادي وتنموي يحمله المؤشر السابق آنفا، توصلت الدراسات المستفيضة لصندوق النقد الدولي المتعلقة بأكثر من 150 بلدا حول العالم، إلى أن أهم أداة للسياسات الاقتصادية المتعلقة بتنظيم الأسواق العقارية في أي بلد، ولكبح جماح ارتفاع أسعار الأراضي فيها في الأجل الطويل، ينصب فقط في اتجاه العمل المستمر على (توفير الأراضي) بما يلبي احتياجات أفراد المجتمع! وأن هذه الأداة تلعب دورا أهم من كل العوامل التقليدية الأخرى (معدل الفائدة، تكاليف البناء، الائتمان المحلي)، بل إن تأثير تلك العوامل يكاد يصل إلى العدم مقابل القوة الأكبر لعامل (توفير الأراضي). (5) بعدئذ؛ كيف لنا في السعودية أن نخرج الأراضي من أسر الاحتكار، ومن هذه الورطة التنموية الكبرى، التي أوقعت الأراضي الصالحة للسكن التي تتجاوز بمساحاتها مساحات المدن ذاتها في أيادي قلة محتكرة، غذى لهيب أسعارها أفران المضاربات المحمومة على الجزء اليسير منها؟! إنه السؤال الذي لا يوجد أسهل من الإجابة عنه! بأن تلغى أشكال تلك الصور المفجعة من الاحتكار، وأن تتخذ الحكومة السياسات والقرارات التي تحطمها بالدرجة الأولى، وبتحطمها سينهار كل ما نتج عنها من ويلات وآثار مدمرة تبعتها، من مضاربات محمومة وتدوير أموال مساهمات وتلاعب بالأسعار وتضخيم لها، لتعود إلى دائرة تنمية الاقتصاد والمجتمع، لا أن تبقى خارج دائرتهما بوضعها المدمر الراهن، الذي لم ينتج عنه سوى امتصاص خيرات ومقدرات البلاد والعباد، والتسبب في إلحاق أخطر الأضرار الأمنية والاقتصادية والمالية والاجتماعية بكل من هو خارج تلك القلة الاحتكارية والكريات الطفيلية المضاربية المحيطة بها. أخيرا؛ يجب أن تكون نتيجة الجهود الكبيرة للأجهزة الحكومية المعنية بالشأن العقاري والإسكاني في الوقت الراهن، ولترجمة التوجهات الجادة والعاجلة للدولة أيدها الله في سبيل انتشال البلاد والعباد من هذه الورطة، أؤكد أنه لا يجب أن تحيد النتيجة النهائية لكل تلك الجهود الخيرة والصادقة عن إعادة أسعار الأراضي والعقارات إلى قيمتها العادلة! وكما تبين لنا جميعا أن السبيل إلى تحقق كل ذلك مرهون فقط بتوفير أكبر قدر ممكن من الأراضي بما يقابل طلب أفراد المجتمع عليها، وأن تضرب بيد من حديد أشكال احتكار الأراضي كافة بفرض الرسوم عليها أو بغيره من الأدوات، وأن تتوافر فيها الخدمات الأساسية، والتطوير العمراني والعقاري اللازم، وهذا بالطبع سيذهب بها إلى تدني أسعارها، لا إلى تضخيمها. وحين تنجح الدولة في توفير وتلبية احتياجات المواطنين من الأراضي السكنية المطورة والمشمولة بالخدمات اللازمة كافة، تحت مستوى أسعار عادلة تراوح بين 200 و300 ريال للمتر المربع على أبعد الحدود، فإنها بذلك قد حققت الهدف التنموي المنشود، وبذلك تطوى صفحة أكبر ورطة اقتصادية وتنموية واجهها اقتصادنا الوطني والمجتمع منذ تأسيس البلاد. والله ولي التوفيق.
إنشرها