Author

من بناء المساكن .. إلى سياسة إسكان شاملة

|
يمثل السكن من الناحية الاقتصادية في المتوسط ما يقارب 30 في المائة إلى 40 في المائة من دخل الفرد، فلذا يكتسب أهمية قصوى على مستوى الأفراد وتحديد مستوى معيشتهم، وكذلك على مستوى الخطط والسياسات التنموية الحكومية، إذ إنه مفتاح لحل كثير من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية وما تفرزه من سلبيات مثل الفقر والبطالة والمخدرات وحتى الإرهاب والجرائم المدنية. ليس ذاك فحسب ولكنه أيضا عنوان للاستقرار والانتماء للمكان. وهذه الأهمية ليست بخافية على صانع القرار الحكومي، فهناك الكثير من الخطط والسياسات التي تم تصميمها وتنفيذها لمواجهة النقص في مخزون المساكن في المدن والقرى. وبنظرة شاملة لتلك السياسات نجد أنها في الغالب تركز على توفير المساكن من خلال دعم مالي ومنح الأراضي أو حتى بناء مجمعات سكنية يتم توزيعها على المواطنين. وقد تكون هذه السياسات المباشرة مطلوبة بل ملحة وعاجله لمواجهة الطلب المتزايد على المساكن، إلا أنها تبقى معالجات وحلولا آنية لا تتصف بالاستدامة. بمعنى أن معدل توفير المساكن من خلال القنوات الحكومية أقل بكثير من معدل الطلب عليها الذي يتزايد عاما بعد عام بحكم الزيادة الطبيعية في النمو السكاني، إضافة إلى الهجرتين الداخلية والخارجية إلى المراكز الحضارية الكبرى التي تفتقد إدارة وضبط النمو الحضري. والقصور في تلك السياسات الإسكانية لا يقف عند ذلك الحد، بل إنه بحكم سيطرة المشكلة وحدتها على صانع القرار يتم الاستعجال في تنفيذ المشاريع الإسكانية على وجه السرعة دون تحديد الفئة المستهدفة والغرض من المشروع، كما في مشاريع الإسكان العاجل في مدن الرياض والدمام وجدة، التي تم الانتهاء منها في الوقت المحدد وبالمواصفات المطلوبة، إلا أن المسؤولين فوجئوا بأنهم لا يملكون آلية لتوزيع تلك الوحدات السكنية وحاروا في توزيعها وانقضى الوقت وهم في نقاش يدور في حلقة مفرغة حتى تم نسيانها فظلت دون استخدام عقدا من الزمان أو يزيد. ومع ذلك اتضح بعد استخدامها أن تصميم تلك المشاريع الإسكانية العملاقة يفتقد أساسيات التخطيط الحضري وكفاءة التصميم المعماري، لتكون بؤرة مشكلات أمنية واجتماعية واقتصادية خطيرة جدا. إن النيات الصادقة والحماس العاطفي والحلول السريعة لا تكفي لمعالجة القضايا العامة، والإسكان يأتي في مقدمتها، إذ إن طبيعة القضايا العامة معقدة تتداخل فيها عدة عوامل ولا يمكن بأي حال من الأحوال التعامل معها بتفكير أحادي ونظرة ضيقة، والاعتقاد بأن وضع هدف واحد كفيل بمعالجة المشكلة. فالمشكلات الاجتماعية الاقتصادية ومنها مشكلة الإسكان متشعبة ومترابطة، وبالتالي تتطلب للتصدي لها سياسات شاملة تكون بمثابة سلة تحمل مجموعة من الأهداف (وليس هدفا واحدا) تقود نحو وضع جديد أفضل يدفع في كل الاتجاهات إلى تحقيق المقاصد والمنافع العامة. وفي قطاع الإسكان الذي تتداخل فيه عدة جهات حكومية وخاصة وفئات مجتمعية مختلفة، كان لا بد من وضع سياسة تضمن التنسيق فيما بينها لضمان الاتساق والتناغم. وهذا يحتم النظر لقطاع الإسكان كصناعة لها مدخلات وعمليات تحويلية ومخرجات، فلا يصح على سبيل المثال التركيز على المخرجات دون النظر لعملية التصنيع من الألف إلى الياء بجميع مكوناتها. وإذا كانت المدخلات الأساسية لصناعة الإسكان تتضمن التمويل والأرض ومواد البناء والعمالة، فلا يمكن التركيز على التمويل دون الأخذ بعين الاعتبار توفير الأراضي الصالحة للسكن وبأسعار تتناسب مع دخول الأفراد، لأن الحصول على التمويل دون أرض مناسبة للسكن (تتوافر فيها جميع الخدمات العامة) لا يستطيع المواطن معه بناء مسكن. فضلا عن أن أسعار الأراضي ارتفعت إلى مستوى أصبحت تمثل ما يقرب من نصف تكلفة السكن. والمشكلة أن التمويل الحكومي من خلال إقراض المواطنين يؤدي إلى زيادة الطلب على الأراضي ومواد البناء والعمالة، حتى أن هذا التضخم يقلل من القوة الشرائية ليتضاءل القرض حتى لا يكاد يمثل ربع تكلفة المسكن. فبدلا من أن يساعد التمويل الحكومي في حل المشكلة نجده يسهم في تفاقمها. وهذا ما كنا نقصد حين الإشارة لضرورة تبني سياسات شاملة تأخذ بعين الاعتبار جميع مكونات صناعة الإسكان وليس الاكتفاء بحل جزئي. من أجل ذلك كان من الضروري أن يتزامن مع زيادة قيمة وأعداد القروض الممنوحة للمواطنين زيادة المعروض من الأراضي السكنية والعمالة ومواد البناء. دون هذه السياسة الشمولية سندخل في دائرة مفرغة تقود إلى تأزيم وضع الإسكان بدلا من حله. وهذا أمر غير مقبول لأن السكن ليس سلعة اقتصادية فحسب ولكن اجتماعية أساسية وشحها سيقود لتبعات سلبية تمس الأمن الوطني كما ذكر في مقدمة المقال. كثير من الدول تعدت مرحلة التوفير الشامل لجميع مقومات الإسكان إلى مرحلة ما يسمى سياسة التمكين. وتعني أن يتم توفير السكن والوظيفة معا، ليكون الفرد قادرا على تحمل مصروفات المعيشة من مأكل وملبس وأثاث وأجهزة وغيرها، وكذلك التكاليف التشغيلية مثل الكهرباء والماء. ومن هنا يقترح تأسيس شركة حكومية مساهمة للتشييد والبناء لتقوم بعملية تصميم وتخطيط وبناء الوحدات السكنية، وفي الوقت ذاته توفر وظائف للمواطنين بدلا من تسرب الأموال خارج الاقتصاد الوطني، وربما كان ذلك مثالا آخر على السياسة الشاملة التي تصيب أكثر من عصفور بحجر واحد. لا بد من إدراك أن المقصد من عملية الإسكان هو أن يكون المواطن منتجا وأن يعيش بكرامة وبمستوى يتناسب مع مستوى الإنفاق السخي للحكومة، الذي يحتاج إلى إعادة نظر ليكون صرفه أكثر كفاءة وفاعلية وتأثيرا. كما أنه يلزم وضع سياسات تتناسب مع كل فئة مجتمعية بدلا من سياسة التمييز التي تكون لمصلحة الأكثر حظا في المجتمع وليس الأكثر حاجة للسكن. فهذا صندوق التنمية العقارية يمنح القروض دون أولوية للمحتاجين من الفقراء والمعوزين في المجتمع. كما أنه لا يلزم حصر توفير السكن من خلال البناء والتملك فقط، ولكن أيضا من خلال دعم الإيجارات وخفض رسوم القروض المصرفية للإسكان وبناء أحياء سكنية خاصة بمنسوبي كل جهاز حكومي. القصد هنا العمل على خفض الطلب وزيارة العرض في سوق العقار لتنخفض أسعار العقار، وهذا يتطلب سياسة شاملة للإسكان.
إنشرها