Author

أين نحن من الاقتصاد السلوكي؟

|
مستشار اقتصادي
قرأت قبل عدة سنوات كتاب Nudge التي تعني "وكزة" طبقا للقاموس ــ ولكن المعنى الجوهري هو تحويل وتسخير التصرفات السلوكية الفردية كي تكون في انسجام مع المصلحة الاقتصادية العامة. الاقتصاد السلوكي هو محاولة توظيف أدوات ونتائج علم النفس لجعل مجمل التصرفات الاقتصادية والمالية أكثر ملاءمة مع كل ما هو اقتصادي ــ الكثير من الناس لا يتصرفون عقلانيا بينما النظريات الاقتصادية مبنية على أن البشر تتصرف عقلانيا. هذا الفرع من الاقتصاد بدأ يدخل إلى عملية صنع السياسات العامة في الكثير من الدول، فأسست الحكومة البريطانية فريقا "لفهم وتسخير السلوكيات"، خصص لاحقا لبيع خدماته للدول الأخرى، كذلك أسست الحكومة الأمريكية فريقا للهدف نفسه. تقوم الفكرة الأساسية على أن البشر لا يتصرفون دائما بما يخدمهم في المدى البعيد طبقا لما تحدده نظريات الاقتصاد الكلاسيكية المبنية على العقلانية. النظريات تترجم إلى نماذج رياضية لفهم وتوقع ما يقوم به الناس من تصرفات اقتصادية. بدأت فكرة أن الإنسان لا يتصرف منطقيا حين أثبتت التجارب في كل المجتمعات أن الناس لديهم حساسية أكثر نحو تفادي الخسارة من السعي للربح، فليس هناك تماثل منطقي في التصرف. هناك أمثلة كثيرة منها عدم استعداد الناس لتوفير جزء من أموالهم للمستقبل حتى بعد شرح المخاطر لهم، أو عدم الاستعداد لاستغلال فرص الدعم الحكومي للتخطيط. مثال صغير في عدم استعداد الكثير لصرف مبلغ للعزل للتوفير في تكلفة الفاتورة لاحقا. لكل منا أمثلة وتجارب كثيرة في تصرفات قد تكون نفعية ولكنها غير مصلحية مثل تأجيل المنفعة لمصلحة أكبر مستقبلا. السؤال الذي بدأت به يحتاج إلى دراسات معمقة للمهتمين من الاقتصاديين وعلماء النفس في المملكة، وهذا لم يحدث إلى الآن في تقصير أكاديمي فاضح. لا نريد إقفال باب الاجتهاد أو الاستنتاج، ولكن إجابتي تدور حول شمولية السياسات العامة ودورها الطاغي على منهجية وسلسلة تصرفات الناس وخاصة النخبة. هناك لا شك عوامل مشتركة بين ما يحدث في كل المجتمعات وخاصة في زمن يوصف بأنه الحقبة الاقتصادية، كما أن طبيعة البشر أزلية ومتشابهة ولكن هناك اختلافات موضعية وموضوعية لا يمكن إغفالها، وخاصة لما يكون الحديث عن البحث عن الفروع والجزئيات، إذ إننا سرعان ما نضيع بين شجر الغابة. عمليا تسخير الاقتصاد السلوكي يجب أن يتناسب مع طبيعة ومرحلة المجتمع والاقتصاد لدينا ورصد دقيق لتصرفات الناس. في الحالة السعودية هناك تداخل مباشر ووثيق بين عقلنة الاقتصاد وبين عقلانية تصرفات الناس. ما تقوم به السياسات العامة من تشجيع الاستهلاك ممثلا بزيادة المصروفات وما ينتج عنها من ابتعاد عن متطلبات الإنتاجية والفرز الحقيقي للناس تعليميا وعمليا يرسم معالم الطريق اللاعقلاني للناس. المناداة بتصرفات عقلانية في ظل هذه المنظومة تصبح دعوة إلى مثالية في غير مكانها. هذا النموذج من العلاقة يجعل الاقتصاد السلوكي محدود الفائدة. العامل المحرك لتصرف الناس هو نموذج السياسات العامة، لعل أفضل مثال على ذلك يأتي من مرفق الأراضي، توظيف إدارة مرفق الأراضي العاجز يحمل عقلانية (مصلحة للملاك) للبعض وعدم عقلانية (مصلحة الاقتصاد) للكل. هناك توافق اقتصادي بين عقلنة السياسة الاقتصادية وعقلانية تصرف الناس، فكلما أخذت الحكومة بسياسات أقرب إلى العقلانية، تصرف الناس عقلانيا والعكس صحيح.
إنشرها