Author

مستقبل أجيال ما بعد النفط

|
من الواضح أن الأجيال الحالية في دول مجلس التعاون تحاول تعظيم منافعها من الثروة الاستثنائية التي وهبها الله ــــ سبحانه وتعالى ــــ لهذه الدول على حساب الأجيال المقبلة، ويبدو أن أحدا لم يفكر في مستقبل هذه الأجيال، فأسئلة مثل ''ماذا ستنتج أجيال المستقبل في دول الخليج عندما ينتهي النفط؟ هل سيتمتعون بمستويات الدخول والرفاه التي تتمتع بها الأجيال الحالية؟ ما الذي يضمن استمرار مستويات المعيشة مرتفعة لهذه الأجيال؟ قد لا يجد المراقب لها إجابة شافية في أي من دول الخليج، وأن الجميع يواجه الخطر نفسه في المستقبل، وربما بدرجات متفاوتة. لقد حاولت بعض دول الخليج التفكير في مستقبل الأجيال المقبلة واتخاذ بعض الإجراءات لتأمين مستقبل هذه الأجيال بطرق مختلفة. كانت الكويت رائدة في هذا المجال، فقد أنشأت صندوقا للأجيال المقبلة بموجب القانون رقم 106 لسنة 1976 والذي نص في مادته الأولى على اقتطاع نسبة قدرها 10 في المائة من الإيرادات السنوية للدولة اعتبارا من السنة المالية 1976/1977، وفتح حساب خاص لتكوين احتياطي بديل للثروة النفطية يسمى ''احتياطي الأجيال المقبلة'' تستثمر فيه تلك الأموال ويضاف عائد استثماراتها لهذا الحساب، على أن تضم نسبة قدرها 50 في المائة من رصيد المال الاحتياطي العام للدولة الموجود عند العمل بهذا القانون إلى هذا الحساب، وذلك بهدف توفير ثروة كافية للأجيال المقبلة بعد نضوب النفط. ولحماية هذا الصندوق من السحب منه فقد نصت المذكرة التفسيرية للقانون على أنه ''وإن كان المال الاحتياطي العام للدولة يكون رصيدا للمستقبل، إلا أنه نظرا لما لوحظ من كثرة السحب من هذا لاحتياطي بصدور قوانين متعددة خلال كل سنة مالية بفتح اعتمادات إضافية وأخذ ما يغطيها منه، فقد أصبح لزاما تكوين احتياطي خاص لتأمين مستقبل هذه الأمة يبقى مخصصا للغاية العليا التي رصد من أجلها فلا يجوز المساس به''. ونظرا لما لوحظ من ارتفاع المخصصات السنوية للإنفاق العام للدولة عاما بعد الآخر، وكذلك تأثر القيمة الحقيقية لمدخرات الأجيال المقبلة بفعل ارتفاع معدلات التضخم، فقد قررت الحكومة الكويتية رفع نسبة الاستقطاع السنوي من الإيرادات العامة لمصلحة صندوق الأجيال المقبلة من 10 إلى 25 في المائة، وذلك اعتبارا من السنة المالية 2012/2013، وفي رأيي أن الهدف الأساسي من رفع نسبة الاستقطاع هي محاولة تخفيض حجم الفائض المحقق في الميزانية العامة للدولة والذي يفتح شهية المطالبين بتخصيص المزيد من الفوائض لزيادة الرواتب ورفع مستويات الدعم وغير ذلك من المطالب التي تلقي بأعباء دائمة على المال العام للدولة، ووفقا للمعهد الدولي للصناديق السيادية تقدر أصول صندوق الأجيال المقبلة في الكويت وصندوق الاحتياطي العام للدولة بنحو 386 مليار دولار. كذلك حاولت السعودية ضمان نصيب من الثروة النفطية لأجيال المملكة المقبلة عندما أصدر خادم الحرمين الشريفين قرارا في تموز (يوليو) 2010 بإيقاف التنقيب عن النفط في المملكة وذلك لمصلحة الأجيال المقبلة، أي أنه بدلا من تكثيف عمليات الاستخراج لمصلحة الجيل الحالي فقط، فقد هدف هذا القرار إلى ضمان أنه حينما تأتي هذه الأجيال تجد على الأقل حدا أدنى من احتياطيات النفط تحت الأرض لاستغلالها قبل أن تأتي الأجيال الحالية على الأخضر واليابس، ولكن متابعة مستويات الإنتاج والتصدير فيما بعد توحي بأن الواقع ما زال بعيدا عن هذا الهدف. إضافة إلى ذلك فإن معظم دول الخليج لديها صناديق للثروة السيادية تختلف قيم أصولها باختلاف حجم الفوائض التي تحققها ميزانياتها، ووفقا لتقديرات المعهد الدولي لصناديق الثروة السيادية، يقف على رأس هذه الصناديق الصندوق السيادي لأبوظبي بأصول تقدر بنحو 748 مليار دولار، يليها الصندوق السيادي للمملكة بأصول تقدر بنحو 681 مليار دولار، والصندوق السيادي لقطر بأصول تقدر بـ 115 مليار دولار. هذا هو أبرز ما اتخذته دول الخليج من خطوات لتأمين مستقبل الأجيال القادمة، ولكن السؤال الملح هنا هو: هل اختزان الثروة النفطية تحت الأرض لمصلحة الأجيال القادمة هو الخيار الأمثل لضمان أن تعيش الأجيال القادمة في مستويات الرفاهية نفسها التي تحياها الأجيال الحالية الآن؟ وهل ستكفي هذه الاحتياطيات المالية التي يتم استثمارها في صناديق الثروة السيادية لتوليد مستويات الدخل اللازم والكافي لهم؟ مع الأخذ في الاعتبار أن أعدادهم ستكون أضعاف أعداد السكان الذين يسكنون الخليج الآن، وهل يكفي أن نترك للأجيال القادمة وديعة مالية لدى الغير، تتناقص قيمتها الحقيقية مع الزمن وتتعرض لمخاطر عديدة أهمها المخاطر التي تصاحب استثمار تلك الأموال في الخارج؟ والناجمة عن تعرض أصول تلك الصناديق لمخاطر انهيار أصول المؤسسات التي يتم الاستثمار فيها، خصوصا في أوقات الأزمات الاقتصادية، مثل الأزمة الحالية، والمخاطر المصاحبة للتضخم في الدول المضيفة، حيث تميل القوة الشرائية لتلك الاستثمارات نحو التناقص بمرور الزمن، والخسائر الناجمة عن تقلبات أسعار العملات وهو ما يطلق عليه مخاطر الصرف الأجنبي، والمتمثل في ميل عملات الدول المستقبلة لهذه الاستثمارات نحو الانخفاض، والمخاطر الأخلاقية، حيث ليس هناك ضمان لحسن إدارة تلك الأصول في الدول المضيفة، وخصوصا أن الدول المستثمرة لا تملك قوة تصويتية في أغلب الأحوال ولا تمثل في مجالس إدارات الشركات التي تتبعها تلك الأصول، وهو ما يعرض تلك الاستثمارات إلى الخطر، فضلا عن المخاطر السياسية المتمثلة في تغير السياسات الخارجية للدول المضيفة لتلك الاستثمارات، وخصوصا أننا نعيش في منطقة ساخنة مليئة بالأحداث التي ربما تدفع الدول المضيفة في أسوأ الأحوال إلى تجميد تلك الاستثمارات وهو السيناريو الأسوأ على الإطلاق. إن أي عملية حسابية بسيطة للتنبؤ بحجم الإنفاق العام الحالي ومعدلات نموه في المستقبل ستثبت لنا دون عناء أن القيمة المستقبلية لهذه الأصول السيادية سوف لن تكفي الأجيال المقبلة سوى لسنوات معدودة إذا ما انقطعت إيرادات النفط. قد تكون وجهة النظر التي أرسمها هنا فيها قدر كبير من التشاؤم حول المخاطر التي ربما ستواجه الأجيال المقبلة في دول الخليج، ولكن هذه المخاطر هي مع الأسف حقيقية. الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها هي أن النفط سيتوقف يوما من عن التدفق من منابعه إلى الأسواق العالمية، إما لنضوب النفط كمصدر غير متجدد للثروة، أو بسبب توصل العالم لبديل للنفط أكثر كفاءة في توليد الطاقة أو أقل إضرارا بالبيئة. في ظل كل هذه المخاطر فإن السؤال الأخطر الذي قد يتبادر إلى الذهن بعد ذلك هو، ماذا ستفعل إذن أجيال ما بعد النفط؟.
إنشرها