Author

أزمة الثقافة من دايل كارنيجي إلى عبد المقصود

|
رغم أننا شعب يعشق الثقافة، إلاّ أن الثقافة تترنح بين جهات عديدة، فوزارة الثقافة والإعلام تنازلت طائعة مختارة عن المعقل الأخير للإعلام وهو الإذاعة والتلفزيون، ولم يبق في حجرها إلا الثقافة التي تتخاطف مرجعياتها مجموعة من المؤسسات ومجموعة من الشخصيات، ومجموعة من الجامعات، لكن كل جامعة من الجامعات العشرين تهيم في عالمها لغياب الاستراتيجية الثقافية التي كان يجب أن تصممها وزارة الثقافة والإعلام. لذلك نتمنى جميعا أن تضطلع وزارة الثقافة والإعلام بدورها الثقافي في كل ساحات المشهد الثقافي السعودي، فمثلا ليس لدينا مسرح أوبيرالي، أو بالأحرى مجموعة مسارح تثقيفية وتنويرية نعرض عليها مناسباتنا الوطنية، وليس لدينا مسرح حكومي يقود الحركة المسرحية الوطنية، وليس لدينا معهد للتمثيل والسينما، وليس لدينا قصور للثقافة ولا مجلات ومحطات تقدم مشاعل الثقافة الإسلامية وتجوب كل المناطق والمراكز والقرى والهجر. إننا نريد من وزارة الثقافة أن تتوغل داخل المجتمع السعودي، لأننا إذا تركنا المجتمع السعودي دون ثقافة سعودية ممنهجة، فإن الثقافة الغربية التي بدأ تأثيرها واضحا في الشباب والشابات السعوديين والسعوديات، ستقفز على ثقافتنا العربية الإسلامية اللاهثة. إن الشعب السعودي الآن ساحة جاذبة لكل الثقافات الأجنبية التي أخذت تدس السم في العسل وتستهدف تغيير سلوكيات هذا المجتمع المحافظ المتمسك حتى الآن بعقيدته وثقافاته التقليدية المتوارثة. نريد من وزارة الثقافة والإعلام أن تلعب ''ثقافة'' في كل ساحات الشباب وفي كل المجالات، لأنه لا يوجد مبرر واحد يقول: إن المسرح ممنوع، وإن التمثيل محرم، وإن الأوبرا مكروهة، وإن السينما محظورة، وإن الإبداع في مجالات الفن التشكيلي يستحق الإعاقة، وغير ذلك مما نسمعه من أقاويل لم تثبت صحتها على الإطلاق، ولم يكن لها أصل ولا فصل. إن الثقافة السعودية تعاني تشتت المرجعيات، فهناك مشروع الجنادرية الثقافي الكبير الذي يقوم بتنفيذه سنويا الحرس الوطني ويحقق به نجاحا منقطع النظير، وهناك مشروع إحياء سوق عكاظ التاريخي الذي تقوم به إمارة منطقة مكة المكرمة، وهناك -كما أشرنا- الجامعات التي تهيم في كل واد، وهناك الأندية الأدبية وجمعية الفنون التي تقدم الثقافة على استحياء وكأنها رجس من عمل الشيطان، وهناك مجموعة من الشخصيات الثقافية البارزة التي آلت على نفسها القيام بأدوار ثقافية مهمة وحققت نجاحات هائلة، ولعل أبرزها ''إثنينية عبد المقصود خوجة'' التي احتفت بمجموعة من المثقفين والعلماء الذين قدموا لهذا الوطن الخير كله والكثير من الأعمال الجليلة والمجيدة. ونستطيع القول: إن ''إثنينية عبد المقصود خوجة'' مثل أعلى لنجاح المؤسسات الثقافية التي انبثقت من المجتمع المدني وسعت إلى تكريم العلماء والرواد ودعم الحركة الثقافية والأدبية، حتى الآن أنجزت ''الإثنينية'' توثيق فعاليات تكريم 440 عالما ومفكرا وأديبا من داخل المملكة وخارجها عبر مسيرتها التي شارفت على الثلاثين عاما، وأصدرت كتاب ''الإثنينية'' وسلسلة أمسيات ''الإثنينية''، وتقع هذه الأعمال في 178 مجلدا تتضمن 81268 صفحة. والمؤسف أن عبد المقصود خوجة بدأ يتوعك، ويطالبه الأطباء بالخلود إلى الراحة، لذلك فهو بسبيل تعليق بعض الإثنينيات بالإكراه، وفي الأسبوع الماضي طير صاحب الإثنينية رسالة مقتضبة ومؤثرة للجمهور الثقافي السعودي جاء فيها: نظرا للظرف الصحي الذي أمرّ به تم تعليق أمسيات الإثنينية حتى نهاية الموسم، متطلعا إلى لقائكم الموسم المقبل -إن شاء الله- مع أطيب التمنيات. إن منتدى الإثنينية الثقافي بدأ انطلاقته الأولى في عام 1983، وهو من أعرق المنتديات الأدبية والثقافية في المملكة، وأسسه عبد المقصود خوجة كمنتدى أدبي للاحتفاء برموز الشعر والأدب والفكر، وبلغ عدد الذين تم تكريمهم حتى الآن أكثر من 440 شخصية ومؤسسة ثقافية محلية وعربية وإسلامية. وإذا كان صاحب ''الإثنينية'' يضطر إلى ترحيل مواعيدها وربما إلى تجميدها، فإن اضطلاع وزارة الثقافة والإعلام بمسؤولية إدارة هذه المؤسسات الثقافية ضرورة ملحة، لضمان استمرار فعاليتها وتطويرها، ولا سيما أن وزارة الثقافة ليس لها بصمة عميقة في متابعة أعمال وتكريم المبدعين من العلماء والمفكرين والأدباء. إن دايل كارنيجي أسس مؤسسات ثقافية قدمت أفضل الخدمات للمجتمع الغربي، وحينما باشر كارنيجي في تقديم خدماته الثقافية وجد المناخ أمامه والقوانين القائمة تتسع لكل أعماله وإبداعاته، بل وجد دعما مجتمعيا وحكوميا واسع الأرجاء حتى أصبحت مؤسسات دايل كارنيجي تعمل في الفضاء إلى ما بعد رحيل دايل كارنيجي، ولقد وقّعت مؤسسة دايل كارنيجي اتفاقيات للتعاون الثقافي مع مؤسسات ووزارات للثقافة في كل أنحاء العالم. إن ''إثنينية'' عبد المقصود خوجة في حياتنا الثقافية لا تقل عن مؤسسات دايل كارنيجي الثقافية في حياة المجتمع الأمريكي مع الفارق طبعا. وما نؤكده أن ''إثنينية'' عبد المقصود خوجة ''عَلّمَتْ '' في حياتنا الثقافية، وأصبحت لها نكهة ومذاق يصعب أن نتقبل غيابها من حياتنا الثقافية. وفي بلادنا فإن هذه المؤسسات المرتبطة بالشخصيات الثقافية تحتاج إلى دعم حكومي، وحبذا لو أن وزارة الثقافة شرّعت لمثل هذه المؤسسات وجعلتها جزءا من هيكل الوزارة الذي يشرفه أن تنضم إليه مؤسسة ثقافية فاعلة بحجم ''إثنينية'' عبد المقصود خوجة.
إنشرها