Author

«نهني ولا ما نهني»

|
سؤال بريء سأله أحد الشباب الذين يعيشون ويتعلمون في دولة أجنبية احتفلت خلال الأسبوع الماضي بميلاد السيد المسيح - عليه الصلاة والسلام، ثم احتفل سكانها بعيد رأس السنة الميلادية بعد ذلك بأيام. هذا السؤال نتج عن حالة الخلاف والتضاد والتمسك بالرأي التي يعانيها المسلمون اليوم، بدءا بعلمائهم. أذكر أنني في إحدى ليالي الصيف الماضي كنت أمر أمام مبنى إحدى السفارات في الحي الدبلوماسي، كانت السفارة تحتفل في تلك الليلة بيومها الوطني. سألت أحد مواطني تلك الدولة عما يعبر عنه ذلك اليوم، فقال لي بكل بساطة، لا شيء إنه يوم اتفق البرلمان على اعتباره اليوم الوطني وذلك ما حدث. كانت الموسيقى تصدح، وخرج بعد نهاية الحفل عدد لا بأس به من رجال الأعمال السعوديين وذوي العلاقة بتلك الدولة بعد أن باركوا وشاركوا مواطني تلك الدولة أفراحهم. لم أر في ذلك شيئاً غريباً ولا مريباً، بل إننا كنا نفرح بتلك الأعياد عندما كنا ندرس في تلك الدول لأنها أيام إجازة نستمتع بقضائها خارج الجامعة. لا أذكر أن أحداً استنكر سلوكنا، ولم نحاول إخفاء ما نفعل. يبدو المشهد مختلفاً جداً اليوم. بدأت الجهات الشرعية في نقاش محموم حول جواز وحرمة تهنئة الأجانب بأعيادهم، جواز التهنئة وليس المشاركة في الأفراح. أطلق الأزهر فتوى تجيز تهنئة المسيحيين بأعيادهم عند تحقق ثلاثة شروط: - الشرط الأول: أن تخلو تلك التهنئة من أي شكل من الأشكال التي يفهم منها الإقرار بعقيدتهم، فهي تهنئة يجب أن تخلو من ذلك. - الشرط الثاني: ألا يكون في التهاني آيات قرآنية - خاصة ما كان في بطاقات المعايدة - صيانة لها من أن يصيبها محظور، إذ من المعلوم أن مثل تلك البطاقات هي غير محترمة عندهم. - الشرط الثالث: ألا يحضر المهنئ طقوس احتفالاتهم، ومنها الذهاب إلى الكنيسة ونحوها لما يكون فيها من إعلان الكفر واستعلائه الذي لا يتفق وما ندين به. ثم انهالت الفتاوى من كل مكان فيها من يكفر ومن يحقر ومن يحذر ومن يناور. بل إن ''تويتر'' غص بالمفتين من كل ملة ونحلة. الواضح أن العلماء اختلفوا في هذا الزمان كما كان في العصور السابقة حيال هذا الأمر. الأشد انفتاحاً كان رأي الشيخ يوسف القرضاوي إذ أفتى بـ ''أجيز ذلك إذا كانوا مسالمين للمسلمين، خصوصا من كان بينه وبين المسلم صلة خاصة، كالأقارب والجيران في المسكن، والزملاء في الدراسة، والرفقاء في العمل ونحوها، وهو من البر الذي لم ينهنا الله عنه. بل يحبه كما يحب الإقساط إليهم ''إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ'' (الممتحنة:8). ولا سيّما إذا كانوا هم يهنئون المسلمين بأعيادهم، والله تعالى يقول: ''وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا'' (النساء:86)''. وأردف ''يجب أن نراعي هنا مقاصد الشارع الحكيم، وننظر إلى النصوص الجزئية في ضوء المقاصد الكلية، ونربط النصوص بعضها ببعض، وها هو القرآن يقول: ''لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ'' (الممتحنة:8)''. *** وما دمنا في مجال التهنئة، ومع حلول الأعياد تأتي ميزانية الخير التي تعد أكبر ميزانية في تاريخ المملكة. لا أدري كيف يستطيع المسؤولون عن هذه الميزانية أن يناموا قريري العيون وهم يعلمون أن هذه الميزانية تضعهم تحت طائلة حكم الأجيال القادمة لأسباب عدة: - الأول هو أنها فرصة تاريخية لتحقيق إنجاز على مستوى المسؤولية لكل وزارة، خصوصاً أن كل من طلب مشروعاً أو برنامجاً حصل عليه، فالمسؤولية تقع على الجهاز التنفيذي لتحقيق إنجازات ملموسة توازي حجم الميزانية التي حصلوا عليها. - الثاني أن الإنجازات المطلوبة تلزم المسؤول بإعادة النظر في الأخطاء والتعثر وسوء الإدارة التي لا تزال سمة لأغلبية المشاريع المعتمدة في ميزانيات سابقة، وهذا يضاعف المسؤولية والضغط على كل الجهاز التنفيذي. - الثالث أن هذه الميزانية اعتمدت في 92 في المائة من إيراداتها على النفط الذي بحت أصواتنا ونحن نحذر من استمرار الاعتماد عليه كمصدر قابل للنضوب أولاً ويتزايد استهلاكه المحلي بشكل مقلق ثانياً. إن التحذيرات التي عرضها خبراء وأساتذة الاقتصاد يجب أن تُضخَّم لا أن نحجمها ونحاول تكذيبها. - الأخير - وهو مرتبط بسابقه – أن المهنية واحترام المنصب والمسؤولية وأغراض الجهاز تستدعي أن تبدع كل جهة خدمية في محاولة إيجاد بدائل منطقية لاعتمادها المستمر على الاعتمادات المالية التي تحصل عليها من الدولة، ولنا في تركيا والبرازيل وسنغافورة أمثلة جيدة في قدرة القطاع العام على تحقيق الاكتفاء الذاتي من خلال جعل نتائج الأعمال والمشاريع إنجازات تقدم قيمة مضافة مالية ونوعية. أختم بتهنئة الجميع، و''كل ميزانية وأنتم بخير''.
إنشرها