Author

الأزمة البوتينية

|
تُرى لماذا يلجأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتن إلى اتخاذ تدابير قمعية متزايدة الشدة في التعامل مع خصومه؟ إن نظام بوتن، الذي ظل باقياً طيلة 14 عاماً تقريبا، يسيطر على أغلب المؤسسات العامة والأجهزة الأمنية بالكامل، بما في ذلك النيابة العامة، وبوسعه أن يغلق أو يراقب أي منفذ إعلامي في أي وقت وبدون سابق إنذار. لماذا إذن يستهدف الصحافيين، وصغار رجال الأعمال، والمنظمات غير الحكومية، وهو النهج الذي يؤدي حتماً إلى خنق الحياة الاجتماعية والاقتصادية ويحكم على البلاد بالركود؟ تُرى هل دب الخوف في قلب الأسد من الفأر؟ أم أن الفأر ليس صغيراً ومسالماً إلى هذا الحد في نهاية المطاف؟ الواقع أن سجل الحكومة في الآونة الأخيرة كان محبطا: ففي غضون بضعة أشهر، فرضت السلطات العديد من القوانين القمعية الجديدة، فأرغمت صحافيين من ذوي النفوذ على ترك وظائفهم، ولاحقت مدافعين عن حقوق الإنسان، ورؤساء بلديات، ومحامين وساسة بارزين قضائيا. والآن لا يجرؤ الزعماء السياسيون، والمسؤولون الحكوميون، والقضاة حتى على التظاهر بأن النظام القضائي مستقل ونزيه. وتستخدم الاتهامات الخطيرة الزائفة بكل حرية وعلانية. وكان إغلاق عمليات وكالة الولايات المتحدة للتنمية الدولية في روسيا، وراديو سفوبودا، من الأمثلة الواضحة على الجهود الرامية إلى تقييد حرية الرأي والحد من التعاون الأجنبي. وفي هذا السياق الجديد ذي الطابع المؤسسي للمجموعات المناهضة لمؤسسة النظام، يبدو المجلس الرئاسي للمجتمع المدني وحقوق الإنسان عتيقاً وبلا جدوى بعد أن أضاف 39 عضواً جديدا، ليصبح مجموع أعضائه 62 عضوا (انسحب منه أكثر الشخصيات المستقلة الجديرة بالثقة في العام الماضي). وفي اجتماعه الأول مع بوتن في تشرين الثاني (نوفمبر)، بدا رئيس المجلس ميخائيل فيدوتوف غير مستريح واعترف بأنه سيكون من الصعب على المجلس مزاولة عمله بشكل فعّال. ولكن رغم كثرة عدد المراقبين في روسيا، فإن الهجوم الذي يشنه النظام بعد الانتخابات ضد القوى ''غير الصديقة'' يبدو من المؤكد أنه سيؤدي إلى نتائج عكسية في الأمد الأبعد، وربما كانوا محقين في هذا. لا ينبغي لنا، كبداية، أن نهون من شأن المظاهرات المناهضة للرئيس بوتن التي اندلعت في كل أرجاء البلاد في الشتاء والربيع الماضيين. فقد نجح المحتجون في حشد مئات الآلاف من المواطنين الروس، وفرضوا ضغوطاً شديدة على السلطات الحكومية المركزية والإقليمية والمحلية لشهور عديدة. وأثبتوا أن الكرملين لا يستطيع أن يحد من هذا الاتجاه الاجتماعي القوي الجديد ــ المشهود له من قِبَل عدد لا يحصى من المواقع والمدونات والمحفوظات على شبكة الإنترنت ــ بحيث يتحول في النهاية إلى ''فورات غضب معزولة'' يغذيها ''عملاء أجانب''. وثانيا، يدرك بوتن وأقرانه تمام الإدراك أن شرعيتهم هشة، نظراً لفشلهم في تبديد الاعتقاد المنتشر على نطاق واسع بأن الانتخابات في كانون الأول (ديسمبر) 2011، وآذار (مارس) 2012 كانت مزورة. ورغم انحسار الحديث عن ''التحديث'' منذ استعاد بوتن مقعده الرئاسي في شهر أيار (مايو)، فإن الفساد لم ينحسر، والآن يحمل المواطنون الروس العاديون كبار الموظفين الرسميين المسؤولية عن الفساد. وللمرة الأولى منذ سنوات يشككون في النوايا الحقيقية لزعمائهم وقدرتهم على تحسين مستويات المعيشة. وثالثا، امتدت الفجوة المتسعة بين الأجيال إلى النخبة الحاكمة. فاليوم يرى أبناء رجال بوتن، الذين لا تقتصر آفاقهم على روسيا، أن آباءهم ينتمون إلى زمن عتيق وأنهم فقدوا لمستهم للواقع. ويشعر أبناء الجيل الأكثر شباباً بالاختناق إزاء سياسات الحماية المبتذلة التي يتبناها آباؤهم. وهم لم يعايشوا الحقائق اليقينية الثابتة التي كانت في أيام دولة الحزب السوفييتي، وقليلون منهم يتوقون إلى عودتها. ولهذا السبب، لعب ''صعود وسقوط'' الرئيس السابق دميتري ميدفيديف، الذي كان أشبه بمسرحية هزلية، لعب دوراً مزعجاً على الصعيد الاجتماعي. فرغم أن مهمته الرئيسية كانت تتلخص في الاحتفاظ لبوتن بمكانه إلى حين يتمكن من العودة لفترة ولاية رئاسية ثالثة، فإن ميدفيديف حشد بالفعل قدراً من الدعم الشعبي. ففي عهده كرئيس للبلاد، لم يحقق أي شيء تقريباً من حيث سيادة القانون، أو اللامركزية، أو التحديث الاقتصادي، إلا أن جزءاً كبيراً من أهل النخبة والطبقة المتوسطة في روسيا علقوا آمالهم عليه باعتباره ثقلاً موازناً لعشيرة بوتن وأجهزته الأمنية. كان تفكيراً قائماً على التمني، ولكنه تغلغل في المناخ السياسي والاجتماعي. إن الأنظمة الاستبدادية تعتمد على الموافقة الصامتة من قِبَل شعوبها وولاء النخب لها. ولكن من سوء حظ بوتن أنه عندما تصبح الأنظمة الاستبدادية موضع تشكيك عن طريق احتجاجات شعبية فإن ولاء النخب من غير الممكن أن يظل أمراً مفروغاً منه. خاص بـ «الاقتصادية» حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2013.

اخر مقالات الكاتب

إنشرها