Author

مفارقات السوق النفطية

|
نشاهد في حياتنا اليومية الكثير من غرائب الأمور في أسواق التداول النفطية، بعضها لا معنى له والبعض الآخر فيه من الأوهام وعدم الدقة وتضارب المصالح، ما يجعل المرء يحتار ويصرخ، أين الحقيقة؟ وأول ما يتبادر إلى الذهن، ونحن بصدد تسويق سلعة هي الأهم في حياة المجتمع الدولي، لماذا هذا التذبذب اليومي في الأسعار؟ كمية الطلب تكاد تكون معروفة وثابتة بدقة متناهية، وكمية الإنتاج معلومة وقابلة لهامش كبير من الزيادة وقت الحاجة. ومع كل هذه المعطيات، لا نرى ضرورة للتغيير الآني المستمر للأسعار في السوق النفطية، حتى الفورية منها. ونحن هنا نتحدث عما يقارب 90 مليون برميل من الإمدادات النفطية في اليوم الواحد. والأدهى أنك تشاهد تطلعات وتشنجا وشد انتباه إعلامي دولي انتظاراً لأخبار مستوى الخزن الاستراتيجي الأمريكي الأسبوعي، وهي لا تغني ولا تسمن من جوع ولا لها أي قيمة أومدلول منطقي. ومع ذلك، فهي تلعب دوراً كبيراً في تحريك أسعار النفط صعوداً أو هبوطاً. وتأثير ذلك يكون قصير الأجل ثم تعود الأمور خلال ساعات أو أيام إلى سابق عهدها. وأثناء كتابة هذا المقال وقعت عيني على عنوان في إحدى الصحف يقول: أسعار الخام تتراجع بسبب تعذر محادثات الميزانية الأمريكية. مع أن الطلب والإنتاج آنذاك متوازنان ولم يكن هناك ما يدعو إلى أي تغيير في مستوى الأسعار. وبطبيعة الحال فإن المستفيد الأول من هذه التذبذبات اليومية التي لا معنى لها، مهما كان مستواها، هم المضاربون الذين يبيعون ويشترون الهواء وعلى الهواء، أي أنهم يتداولون براميل نفط وهمية. والأولى أن تكون هناك تسعيرة عالمية شهرية، تنتقل بموجبها ملكية النفط المراد عرضه إلى المشتري الفعلي. وعلى الرغم من الأهمية القصوى للنفط بالنسبة للحياة البشرية المعاصرة وكونه ثروة ناضبة، إلا أن العالم أسرف في استخدامه منذ عرفه وكأنه يريد إهلاكه. وكانت أول بوادر سوء النية عرض النفط عند بداية عهده بأسعار متدنية جدا إلى حد شبه البلاش. وربما أن ذلك يعود إلى كون معظم منابع النفط في أوائل القرن الماضي تقع في أراض دول صغيرة، وفقيرة في الوقت نفسه، لا تملك من الأمر شيئاً، نظراً لتولي شركات الدول الغربية المتقدمة مهمة الاستكشاف والإنتاج. فكان سعر البرميل الذي يمثل 42 جالوناً من النفط الخام الثمين لا يزيد على دولار واحد في بداية تداوله منذ ما يزيد على 70 عاماً. واستمر السعر قريبا من هذا المستوى المنخفض سنين طويلة حتى بدأ يتدرج في الارتفاع. ولم يكسب ارتفاعاً ملحوظا إلا عندما وصلت الدول المُنتجة الرئيسية في الشرق الأوسط إلى مستوى مقبول من الوعي الاجتماعي والتقدم العلمي، ما ساعد على إيجاد حافز لها لتحمُّل المسؤولية والمشاركة في صنع القرار فيما يتعلق بالثروة النفطية. ومع حدوث عدم الاستقرار السياسي في بعض مناطق الإنتاج، وجدت الأسعار طريقاً سهلاً إلى الارتفاع، خصوصاً أن النفط قد أصبح تقريباً المصدر الوحيد للطاقة في العالم. وهذه نعتبرها جنحة استراتيجية من الدول الكبرى ستؤدي في نهاية المطاف إلى استنزاف مخيف للمصادر النفطية قبل أن يجد المجتمع الدولي بديلا مناسبا للمشتقات النفطية. وسيلحظ القارئ أننا تجنبنا ذكر ما يسمى بالنفط غير التقليدي، وهو لا يختلف كثيراً عن النفط التقليدي من حيث التركيب الكيماوي. ووجوده في الطبيعة يكون مختلطا مع الرمال والصخور وفي حالة صلبة. ولذلك تجد أن تكلفة إنتاجه مرتفعة بنسبة كبيرة وكمية إنتاجه متواضعة إذا قورن بالنفط التقليدي المشهور. وكان الأولى أن تكون أسعار هذه المادة الثمينة والقابلة للنضوب من البداية عند مستوى متكافئ لأهميتها كمصدر مثالي متميز للطاقة، مع إضافة سعرية تزداد مع مرور الوقت من أجل تعويض ما يستنزَف منها، كنوع من الضريبة المتصاعدة. وفي الوقت نفسه بذْل مجهود دولي لتشجيع إيجاد البدائل المناسبة في وقت مبكر من عمر النفط. قد يرى البعض أن هذا أمر غريب، في وقت يحاول فيه كل مُنتِج أن يدفع بأكبر كمية ممكنة إلى السوق العالمية. أو أنه ضرب من الخيال أن تجتمع دول العالم على أمر يتعارض مع طبيعة البشر، فمنهم الحسود والمتسلط والفقير والغني والمسالم والعدواني. ومن المستحيل أن يجتمعوا على أمر واحد مع الاختلاف الكبير للمصالح. ونحن نوافق على استحالة الاتفاق، ولكننا نقول وبكل ثقة، لو كانوا قد أدركوا ماذا ينتظرهم بعد عقود قادمة من احتمال حدوث شح مخيف في مصادر الطاقة وما نخشى أن يترتب عليه من فوضى شعوبية قد تأتي على المكاسب الحضارية وعلى الرطب واليابس من الإنجازات الاقتصادية، لما تأخروا ساعة واحدة عن تقنين إنتاج النفط من بدايته حفاظاً على مصيره، وتعويض الفارق بين الإنتاج والطلب من مصادر أخرى مهما كلَّف ثمنها. وستكون هناك تساؤلات لا نهاية لها. لعل أهمها جدوى تقنين إنتاج دول الخليج كمثال، وهو يُعتبر الآن المصدر الوحيد للدخل القومي، ونقول هذا هو مصدر القلق. فلو كان هناك سقف معين للإنتاج من الأساس هدفه إطالة عمر النفط، لكنا، مثل غيرنا، قد أوجدنا لأنفسنا مكانة بين دول العالم عن طريق إيجاد مصادر متنوعة للدخل، إلى جانب الدخل النفطي. ولوجدتنا قد نفضنا عنا غبار الكسل والخمول والاتكال على اليد العاملة الأجنبية في كثير من شؤون حياتنا. فالحاجة هي أم الاختراع. ولكان العالم اليوم أكثر أمناً فيما يتعلق بمستقبل الطاقة. ونكون نحن أيضا أفضل حالاً اقتصادياًّ واجتماعياًّ وتربوياًّ، نعتمد على الله ثم على أنفسنا في تسيير أمور حياتنا، بدلاً من الاعتماد شبه الكلي على دخل سخي من مصدر ناضب.
إنشرها