Author

البيانات الموثقة أصدق من أي ادعاءات

|
عندما كنت مقيماً في الولايات المتحدة كانت كثير من وسائل الإعلام تردد ادعاءات بأن العرب يشترون أمريكا ويشترون الغرب، وتحدث أحد أستاذة الجامعة عن الاستثمارات العربية وأورد بعض هذه الادعاءات. فذكرت له أن جريدة ''وول ستريت''Wall Street Journal في ذلك الوقت نشرت مقالاً مطولاً عن الاستثمارات الأجنبية في أمريكا. وأوردت الصحيفة بيانات تؤكد أن الأغلبية الساحقة من الاستثمارات الأجنبية في الولايات المتحدة أما أوروبية أو يابانية. فرد علي معترفاً بخطئه وقال ''إننا (الأمريكيين) نركز على استثمارات العرب لأنهم مختلفين عنا، ونتغاضى عن الأوروبيين لأنهم يشبهوننا''. وهذا على ما يبدو من أهم الأسباب التي تدفع وسائل الإعلام للإسهاب بالكلام عند دخول العرب في أي شركة أو مجال للاستثمار، كما أن الكثير من الدعاية المرافقة لاستثمارات العرب والسعوديين بالذات في الغرب تأتي من وسائل إعلام مغرضة تحاول باستمرار إثارة مخاوف المجتمعات الغربية ضد العرب، وتصور هذه الوسائل العرب بالبعبع الذي يحاول أن يسيطر على الغرب ويستولي على ثرواته. ويسير بعض المختصين والكتاب والإعلاميين لدينا (ودون قصد إن شاء الله) على نفس هذا النهج الذي تردده الكثير من وسائل الإعلام الغربية، ويصدرون تصريحات وتقديرات تهول وتبالغ من حجم ونوع استثمارات العرب والمملكة بوجه خاص. وتتدفق الاستثمارات إلى الخارج من أي بلد في العالم عندما يحقق فوائض في حساباته الخارجية وبالتحديد في حساباته الجارية. وتتزايد الاستثمارات الخارجية مع استدامة الفوائض في الحسابات الجارية للدول. وتشير بيانات ميزان المدفوعات التي تصدرها مؤسسة النقد العربي السعودي إلى أن المملكة بدأت تحقق فوائض كبيرة في حساباتها الجارية في بداية السبعينيات. وكانت أول قفزة ضخمة في تاريخ المملكة في عام 1974م، حيث ارتفع الفائض في الحساب الجاري في ذلك العام إلى نحو 82 مليار ريال، بعدما كان 9.3 مليار ريال في عام 1973م، وذلك على أثر الارتفاع الكبير في أسعار النفط في نهاية 1973م. واستمر ميزان مدفوعات المملكة في تسجيل فوائض في الحساب الجاري خلال ما يسمى بالطفرة الأولى حتى عام 1982م. وقد بلغ إجمالي الفوائض في الحساب الجاري 574.3 مليار ريال خلال فترة العشر سنوات الممتدة بين عامي 1973 وعام 1982م. وشهد ميزان مدفوعات المملكة خلال الفترة الممتدة بين عام 1983م وعام 1998م تسجيل عجوزات مستمرة في الحساب الجاري، بسبب التراجع الكبير في أسعار وإنتاج النفط، ووصل إجمالي العجوزات في موازين الحساب الجاري خلال تلك الفترة إلى 668.4 مليار ريال. وأدت تلك العجوزات إلى تآكل احتياطات المملكة من الأصول الأجنبية التي تراكمت أثناء فترة السنوات العشر السابقة. وصاحبت الفجوة في الموازين الخارجية حدوث عجوزات مالية، كما بدأ الاقتراض الحكومي وتراكم الدين المحلي إلى مستويات كبيرة. وتحسن أداء ميزان الحساب الجاري بعض الشيء في عام 1999م ولكن بمقدار ضئيل، ثم بدأ الحساب الجاري بتحقيق فوائض كبيرة في عام 2000م. وتصاعدت تلك الفوائض في السنوات التالية حتى وصل إجمالي الفوائض في الحساب الجاري إلى 3554 مليار ريال خلال الفترة الممتدة بين عامي 1999 و2012م. وقد تجاوزت الفوائض في الحسابات الجارية في السنوات الأخيرة حجم الفوائض خلال فترة الأربعين عاما الممتدة من عام 1973م وحتى نهاية عام 2012م والذي بلغ 3478 مليار ريال. وجاء ارتفاع سعر النفط الأخير والذي بدأ بصورة تدريجية بعد التراجع الكبير في أسعاره في 1998م، ليعيد الفوائض الكبيرة في الحسابات المالية، ولكن معظم هذه الفوائض تركزت في سبع من السنوات الثماني المنتهية بعام 2012م. ويوضح الرسم البياني المرفق أحجام الفوائض باللون الأخضر وأحجام العجوزات في الحسابات الجارية باللون الأحمر. ودعمت فوائض الحساب الجاري المتراكمة موقف المملكة المالي بقوة على مستوى العالم، حيث وفرت دعماً وضمانات قوية للدفاع عن العملة الوطنية وتثبيت سعرها لفترة طويلة من الزمن. وقد حد تراكم الأصول الأجنبية من قدرات المضاربين على النيل من معدلات صرف العملة الوطنية، وكان سعر صرف العملة الوطنية تعرض لبعض الضغوط عندما تراجعت الاحتياطات الأجنبية في عامي 1999-1998، ولكن عودة الفوائض الكبيرة في الحسابات الجارية فيما بعد أوقفت هذه الضغوط. واستخدم الجزء الأكبر من فوائض الحساب الجاري في رفع حجم الأصول الأجنبية لمؤسسة النقد العربي السعودي إلى نحو 2.7 تريليون ريال في نهاية شهر نوفمبر 2012. ولا تستخدم أصول المؤسسة الأجنبية كما يتصور البعض لتغطية احتياطيات الدولة المالية فقط، ولكن جزءًا كبيراً منها يستثمر لتغطية إصدار العملة الوطنية، ومقابل إيداعات مؤسستي التقاعد وصناديق التنمية والمصارف التجارية، ولأغراض امتصاص السيولة المحلية الفائضة وتحويلها إلى أصول أجنبية عالية السيولة والحد من الآثار التضخمية للسيولة المرتفعة. أما الجزء المتبقي من الفوائض المالية والبالغ نحو 800 مليار ريال فيتشكل بصورة رئيسية من صافي الاستثمارات الخاصة بما في ذلك الموجودات الأجنبية للمصارف التجارية واستثمارات كبرى الشركات والمؤسسات السعودية. ويمكن من خلال بيانات الفوائض المالية تحديد إجمالي استثمارات المملكة الخارجية وذلك من خلال إضافة الاستثمارات الأجنبية الداخلة إلى المملكة إلى هذه الفوائض. ويصل إجمالي حجم الاستثمارات الأجنبية الفعلية التي تدفقت إلى المملكة خلال الفترة إلى نحو 200 مليار دولار وقد يتجاوزه بقليل. ويمكن من خلال بيانات ميزان المدفوعات وما لدى مؤسسة النقد العربي من أصول أجنبية، وتدفقات الاستثمارات الأجنبية إلى المملكة تقدير حجم الاستثمارات الخاصة الوطنية في الخارج ولكن بصورة تقريبية. ومن خلال النظر في هذه البيانات فإن حجم الأصول الأجنبية التي يملكها القطاع الخاص السعودي في الخارج يراوح ما بين 300 إلى 400 مليار دولار. وتشمل هذه الاستثمارات موجودات المصارف المحلية من الأصول الأجنبية واستثمارات شركتي أرامكو وسابك والاستثمارات المباشرة لمؤسستي التقاعد. وإذا ما أضيف تقديرات الاستثمارات السعودية الخاصة في الخارج إلى ما لدى المؤسسة من أصول أجنبية حتى نهاية شهر نوفمبر والبالغة نحو 726 مليار دولار إلى الاستثمارات الخاصة في الخارج، فإن إجمالي قيمة الاستثمارات السعودية في الخارج يراوح ما بين تريليون و1.1 تريليون دولار. وهذا الرقم تقديري ولكن تدعمه بيانات ميزان المدفوعات وإجماليات الفوائض في الحساب الجاري خلال أكثر من 40 عاماً ويتوافق معها. أما ادعاءات بعض المصادر وبعض المختصين بأن المملكة لديها استثمارات أجنبية بأضعاف هذا الحجم, فلا تدعمها أي بيانات كلية أو جزئية، فمن أين ستأتي المملكة كبلد بالتريليونات الإضافية من الدولارات. وعلى كل من يدعي أن لدى المملكة استثمارات تفوق ذلك بكثير توفير البيانات اللازمة ومصادرها السليمة. أما التشكيك في المصادر الرسمية الموثقة دون قرائن وبيانات سليمة وذكر تخمينات شخصية لا تعتمد على بيانات موثقة فهو أمر غير مقبول واستخفاف بالرأي العام. ولا يمكن لأي شخص مهما كانت مؤهلاته أو خبرته أو مجال عمله الادعاء بأن تقديراته للبيانات العامة سليمة إلا إذا تمكن من دعمها بإحصاءات من مصادر سليمة موثقة.
إنشرها