Author

الممارسات العنصرية في العمل .. متى نحظرها؟

|
عندما خضع المواطن ''س'' لمقابلة وظيفية في إحدى المؤسسات، كان يتوقع أن تطرح عليه أسئلة تتعلق بمؤهلاته العلمية أو خبراته العملية، إلا أن ''مجري المقابلة'' راح يسأله عن أصله وفصله، والمنطقة التي قدم منها، والنادي الذي يشجعه، وكأن المقابلة تحولت من مشروع ''توظيف'' إلى مشروع ''زواج''! لسنا بعيدين عن ''س''، فبعضنا شهد أو تعرض لممارسات عنصرية خلال مرحلة من مراحل مسيرته الوظيفية، ومع ذلك تجد من يكابر ويحاول أن ينكر وجود مثل تلك الممارسات، مثلما كنا ننكر قبلها حالات الفقر والبطالة والإيدز والعنف الأسري والمخدرات بين الشباب والتدخين بين النساء، والمحصلة أننا اعترفنا بوجودها بعد أن تفاقمت إلى أزمات، رغم أنه كان بالإمكان الاعتراف بالمشكلة منذ ظهورها، فالإنكار لن يحل المشكلات، الحل المجدي يكمن دائما في المواجهة. وتعرف ''الممارسات العنصرية في مكان العمل'' على أنها معاملة الموظفين - بالمحاباة أو المضايقة - في التوظيف أو التعيين أو الرواتب أو المنافع أو الترقيات أو التقييم أو التدريب أو الابتعاث أو الفصل على أسس لا علاقة لها بأداء الموظف أو العمل، كالدين أو المذهب أو القرابة أو المنطقة أو القبيلة أو العرق أو الجنسية أو اللون أو الصحة أو المهنة أو المؤهل أو الجنس أو العمر أو الحالة الاجتماعية أو الميول الفكرية أو السياسية أو الرياضية. تخيلوا كل هذه ''الأسس العنصرية'' يمكن أن يتخذ البعض بناء عليها قرارا من قرارات الموارد البشرية. لذا ترى أن المواطن ''س'' يشعر بالظلم، لأنه ضحية من ضحايا التمييز العنصري في بيئة العمل، حتى لو افترضنا أنه حصل بشق الأنفس على الوظيفة في تلك ''المؤسسة المتعنصرة''، فإنه لن يسلم لاحقا من الاضطهاد الوظيفي الذي يُمارس ضده وضد أفراد الفئة ''المستضعفة''، إذ قد يحرمون من بدل العمل الإضافي أو العلاوة السنوية أو الترقية أو التدريب الخارجي، ليس بسبب عدم كفاءتهم، إنما لكونهم لا ينتمون إلى الفئة ''المستأثرة''، وهي الشلة التي تدير ''المؤسسة المتعنصرة'' وتسيطر على مواردها البشرية والمالية، بل قد يتعرض المستضعفون إلى مضايقات وتطفيش وتهميش، قد تصل إلى حد التهكم والتجريح والاعتداء. ورغم أن مبادئنا الإسلامية كلها تحث على العدل والمساواة وتكافؤ الفرص، وهذا ما انعكس في النظام الأساسي للحكم، إلا أننا – مع الأسف - نرى أن الممارسات العنصرية في العمل لم تعالج أو تجرم في الأنظمة (القوانين) السعودية. فنظام الخدمة المدنية (1397هـ)، ونظام العمل (1426هـ)، ونظام التقاعد المدني (1393هـ) ونظام التأمينات الاجتماعية (1421هـ) كلها ''صامتة'' تجاه الممارسات العنصرية التي قد ترتكب ضد المخاطبين بتلك الأنظمة من متقدمين وموظفين ومتقاعدين. إن الغرب, الذي يتهمه البعض بالانحلال والفجور، أخذ من الإسلام مبادئ العدل والمساواة وتكافؤ الفرص، ووضع قوانين صارمة تجرم التمييز العنصري، وتحظر على أصحاب العمل الممارسات العنصرية ضد المتقدمين والموظفين والمتقاعدين، وتجيز للمتضررين منهم الاحتكام إلى القضاء، أما نحن المسلمين، فتجد بيننا من يسترجع ''عقلية الجاهلية''، ويغذي النعرات العصبية والقبلية والطائفية في أماكن العمل أو خارجها. والمضحك المبكي أن نظام الخدمة المدنية ينص في مادته الأولى على أن ''الجدارة هي الأساس في اختيار الموظفين لشغل الوظيفة العامة''، لكن الواقع يكشف لنا خلاف ذلك، فالكثير من الجهات الحكومية – مع انتقال العدوى إلى الشركات ومنها شركات تملكها الحكومة – قد انحرفت عن التوجه الوطني، وتحولت إلى ''إقطاعيات'' أو ''شركات عائلية''، ويمكن لأي سعودي – موظف أو باحث عن عمل – أن يورد لكم أسماء هذه الجهات! إن القضاء على الممارسات العنصرية في بيئة العمل يسهم في تعزيز مبادئ العدالة والمساواة في المؤسسات، ويزيل مشاعر الظلم والاضطهاد من نفوس الموظفين، وما يترتب على ذلك من ضغائن وأحقاد، بل يعزز الإحساس بأنه فعلا لا فرق بين موظف وآخر إلا بالأداء والسلوك والمواظبة. ولذلك أعتقد أن مواجهة الممارسات العنصرية في بيئة العمل يمكن أن تتحقق عن طريق مجموعة من الحلول من ضمنها: - التمسك بالمبادئ الإسلامية الداعية إلى العدل والمساواة وتكافؤ الفرص، والتركيز كذلك على المبادئ الوطنية التي نص عليها النظام الأساسي للحكم، وأن المواطنين سواسية في الحقوق والواجبات رغم كل الفوارق الثانوية، مع التأكيد على مبدأ ''التوازن الوطني''، بحيث لا تسيطر فئة دون أخرى على المؤسسات العامة أو الخاصة سواء كانت هذه السيطرة إدارية أو مالية أو فنية. - تجريم الممارسات العنصرية ضد المتقدمين والموظفين والمتقاعدين، وذكر ذلك صراحة في نظامي الخدمة (المدنية والعمل) ونظامي التقاعد (المدني والتأمينات الاجتماعية)، مع إيضاح العقوبات لممارسي تلك الأعمال أو الأقوال العنصرية. - وضع سياسات واضحة للموارد البشرية تحظر معاملة المتقدمين والموظفين والمتقاعدين على أسس ''عنصرية''، مع انتهاج الشفافية والوضوح عند اتخاذ أي قرار من القرارات المتصلة بالموارد البشرية، والإعلان عن المعايير التي تم بموجبها اتخاذ هذه القرارات كالترقيات والتعيينات والتدريب والابتعاث. - التأكيد على أن ''تنوع القوى العاملة'' مصدر من مصادر القوة، فالمؤسسة الوطنية الناجحة هي تلك التي تضم موظفين ينتمون إلى أطياف المجتمع كافة، ويعملون على أسس تقوم على الاحترام والمحبة، بل إن الموظفين إذا كانوا نسخا مكررة من بعضهم بعضا، فمن المستبعد أن يفكروا بطرق إبداعية وخلاقة. - تغيير آليات تقييم الموظفين بالتخلص من وسائل التقييم الذاتية subjective، والتوجه نحو وسائل التقييم الموضوعية objective، فالتقييم الذاتي يخضع لانطباعات المدير ومزاجه، وبالتالي تصبح المعايير ''مطاطة وغير واضحة'' بحيث يرفع المدير من يشاء وينزل من يشاء. أما التقييم الموضوعي فهو يعتمد على نتائج عمل الموظف، وبالتالي ينبني على حقائق ملموسة وأرقام صريحة لا مجال للتلاعب فيها. مثلا، نلاحظ أن عبارة التقييم ''الموظف باع هذا العام بشكل جيد''.. ''عبارة ذاتية''، إذ كيف يمكن أن نقيس هذا ''الجيد''؟ المفترض أن نقول مثلا إن ''الموظف باع بمبلغ (... ريال) هذا العام محققا بذلك الهدف السنوي المطلوب منه''، هنا يمكن قياس أدائه بلغة الأرقام التي لا تكذب على أحد ولا تحابي أحدا. أخيرا، وبمناسبة اليوم العالمي لمكافحة الفساد الذي نظمت من أجله الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد (نزاهة) ندوة أمس، نطرح سؤالا على الهيئة ومعها وزارتا الخدمة المدنية والعمل: متى تتدخلون لإطلاق مبادرات لحظر الممارسات العنصرية في أماكن العمل؟
إنشرها