Author

هل بإمكان العرب تطبيق النموذج الغربي؟

|
أستاذ جامعي ـ السويد
النموذج الغربي نموذج حلقته الرئيسية الرخاء الاقتصادي والرفاهية الاجتماعية والحرية والمساواة. فيه كثير من المحاسن، ولكن أغلبية هذه المحاسن توصل إليها الغرب على حساب كثير من المبادئ - فقهية ودينية ومذهبية وأخلاقية وإقطاعية وطبقية وعائلية - التي كانت حتى نهاية القرن التاسع عشر تشكل النسيج الاجتماعي العام. الغرب نهض بعد أن خلع عن نفسه هذا النسيج ولبس لباس المدنية والعلمانية والحضارة الحديثة. وأفضل نموذج قدمه الغرب للدنيا يتمثل في الدول التي تقطن شمالي أوروبا - الدول الإسكندنافية. أنا حاليا أقطن في إحدى هذه الدول وبعد تجربة طويلة وصراع لتثبيت الذات في واحدة من أرقى جامعاتها أعود وأؤكد أن النموذج الذي تتبعه هذه الدول من حيث نظام الحكم والاقتصاد والتشريع والضمان الاجتماعي والمساوة في كل الميادين لن يلائم الدول العربية ما لم تغير نسيج حياتها الاجتماعية تغييرا جذريا. النظم العربية سياسية بامتياز، أي أن كل شيء يدور حول نظام الحكم. ونظم الحكم ما زالت تحكمها الأسس التي كانت الدول الإسكندنافية تتبعها في فترات من تاريخها تطلق عليه "عصر الظلمات"، حيث كان للمؤسسة الدينية ورجالاتها والطبقات الاجتماعية القول الفصل فيما يشكل الأخلاق الحميدة. في عصر الظلمات في أوروبا لم تكن الأخلاق الإنسانية الحميدة هي التي تحكم، بل كان الحكم يستند إلى رجال الدين وفتاواهم وخلافاتهم المذهبية والعقائدية، وكان كل طرف ينتقي ما يراه مناسبا من نصوص يراها مقدسة لتحقيق غاياته. وتشتت الناس حسب مواصفات رجال الدين ومن يتبعهم من رجال الحكم وجرت حروب شعواء وقتل ودمار يصعب وصفه. لا نريد الغوص في الجرائم والآثام التي اقترفتها المؤسسة الدينية في أوروبا من خلال فتاواها الشيطانية. يكفي القول إن الغرفة التي أقبع فيها في الجامعة تطل على ساحة جرى فيها حرق 12 امرأة وهن أحياء استنادا إلى فتوى دينية، واليوم كلما تحدثتَ عن دور الدين ورجال الدين كبيرهم وصغيرهم، أشار الناس إلى هذه الحادثة الرهيبة. وهذا ما دفع الدول الإسكندنافية، أكثر من أي دولة أوروبية أخرى، إلى وضع ما يشبه حجرا على المنطلقات والمبادئ والأخلاق التي تستند إلى المذهب أو الدين. بمعنى آخر صار كل ما يخص حياة الفرد ورفاهيته وازدهاره من حيث الاقتصاد والحرية الفردية والدينية والمذهبية والجنسية والحقوق المدنية ومساواة الرجل والمرأة وفصل السلطات ودور الإعلام وحريته واستقلاليته وشفافية مطلقة للحكم بكل أوجهه محور الحياة العصرية. صارت الأخلاق الإنسانية هي الحكم وليست الأخلاق التي يروج لها رجال الدين أو الطبقات المتنفذة في المجتمع. المدنية والعصرنة التي تنظر إلى الإنسان كقيمة أخلاقية عليا وليس معتقده أو دينه أو مذهبه أو توجهه، هي السائدة في الدستور، ويرفض المشرعون حتى ذكر أن البلد كان له يوما ما تراث مسيحي أو ديني. في نموذج كهذا لم يُضطهد الدين ورجالاته، ولم تُضطهد الطبقات المتنفدة. ما حدث كان وضع كل شيء في خدمة الإنسان وليس وضع الإنسان في خدمة أي شيء آخر. ولهذا نرى أن الجالية المسلمة الكبيرة والمؤثرة في السويد في ازدهار تتعايش مع المنطق الجديد. وتماشيا مع المنطق السويدي العصري والمدني لا يستطيع أصحاب المذاهب الإسلامية المختلفة في هذا البلد مع رجالات دينهم تكفير الآخرين أو الدعوة الصريحة للكراهية أو القتل أو الاقتتال أو الحرب، ولا تشعر إن كان هناك مذاهب أو توجهات تعربية أو إسلامية مختلفة في هذا البلد رغم يقيني أن أغلبية المسلمين هنا ملتزمون بدينهم. النموذج الغربي ليس سهلا. اليوم كما ذكرت في إحدى الرسائل وضَع العرب كل مقدراتهم ومنها الإعلام لتقديم وإبراز هذا التوجه ضد توجه آخر استنادا إلى أمور وقيم كانت سائدة في عصر الظلمات هنا. ودعنا نختتم رسالة هذا الأسبوع بآية من الذكر الحكيم أتذكرها كلما نظرت إلى الوضع العربي: "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم".
إنشرها