Author

«عيش الحسين»

|
ألحت على ذهني صورة المرحوم الدكتور غازي القصيبي وأنا أعبر الطريق أمام صف من القدور الضخمة، وعشرات من الناس يطبخون الرز صباح الجمعة الماضي. قال لي - رحمه الله - يوما: لم أشارك في العزاء، لكن ''اللي يعزي واللي ما يعزي ياكل عيش الحسين، وقد أكلته في كل عام من أعوام الشباب''. ظهيرة هذا اليوم، كان ثمة صف طويل في انتظار الدخول إلى وحدة التبرع بالدم. صف طويل في مكان آخر على موقع يوزع ''عيش الحسين''. صف ثالث على بوابة تفضي إلى شبه مسرح أقيم كيفما اتفق، لعرض مشاهد متخيلة عما حدث في كربلاء. مئات من الشباب ارتدوا ما يشبه أزياء الكشافة ينظمون عبور الناس والسيارات التي تتزاحم أمام مجلس تعزية. الغائب الوحيد في عاشوراء القطيف هو السوق. السوق معطلة تماما. رغم أن مراسم عاشوراء هي بذاتها سوق من نوع آخر، منتجاتها مختلفة، شروط البيع والشراء فيها مختلفة، لكن زبائنها، هم أنفسهم زبائن السوق الاعتيادية. شكليا، لا تختلف عاشوراء القطيف عن مثيلاتها في أي بلد. لكن ثمة لمسة يصعب وصف تفاصيلها. لسنوات طويلة حاولت فهم روح هذه المدينة من خلال حراكها الاجتماعي الذي يبلغ ذروته بين السابع والعاشر من المحرم. اللون الأسود يتحول إلى رداء عام للمدينة في هذه الأيام. لكن هذه الأيام بالتحديد تشهد ما أظنه أوسع حراك تشكيلي، عشرات الفنانين المتمرسين والهواة والناشئين يستثمرون المناسبة لعرض أعمالهم الجديدة. هواة المسرح والفنون الصوتية، والشعراء ومتذوقو الشعر، يعيدون في هذا الموسم اكتشاف جمهورهم، أو يعرفون الناس بأنفسهم. الناشطون في مجال العمل الخيري، المرافق الاجتماعية الأهلية، صناديق رعاية الأيتام والفقراء، تستعد كلها لهذه الأيام. يقول لي عضو في لجنة أهلية تقيم مسجدا جديدا إنهم جمعوا في عاشوراء الماضي ثلث تكاليف البناء، وهم يتوقعون إكمال الباقي خلال هذا الموسم. عاشوراء في جانبها التقليدي مجرد تذكير بتاريخ مضى ومات أهله. أما في جانبها الاجتماعي فهي مناسبة لبعث الحياة في مجتمع مدني يؤكد عامة الناس من خلاله أنهم قادرون على تجديد حياتهم وحل مشكلاتهم إذا تواصلوا واستثمروا روح الجماعة. الفولكلور الذي يطغى على فعاليات الموسم ليس عملا احترافيا يمارسه أناس بعينهم. هو أقرب إلى حركة عامة يشارك فيها جميع الناس أو معظمهم، يرددون أبيات الشعر نفسها، يلبسون الزي الأسود ذاته، يتبادلون التحية الخاصة بالموسم بالطريقة نفسها: ''عظم الله أجوركم''، ''مأجورين''، ''طيب الله أنفاسكم''، ''طيب الله أسماعكم''. حضرت موسم عاشوراء في مدن كثيرة، لكني ما زلت أظن أن عاشوراء القطيف شيء مختلف.

اخر مقالات الكاتب

إنشرها