Author

الاقتراض جزء من ثروتك

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى
تماما كما هو الحال في عالم الشركات، بل حتى عالم اقتصاديات الدول والحكومات، فالقدرة على الاقتراض جزء مهم من الوضع المالي في المديين القصير والطويل، وأثبتت الأزمة المالية العالمية الأخيرة أن التفريط في قدرة الحصول على التمويل في الوقت المناسب جريمة اقتصادية في حق الشعوب، بل شعوب الدول الأخرى، لذلك طالبت دول الاتحاد الأوروبي بتطبيق نماذج متقدمة من الحوكمة الاقتصادية، والهدف منها عدم احتكار القرارات والمعلومات عن القرارات الاقتصادية ذات الآثار المهمة، ومنها القدرات التمويلية للحكومة. نحن نبني حياتنا على نماذج مختلفة من التمويل، ونخطط لمستقبلنا ومستقبل الأسرة معنا وفقا لهذه القدرة ونموها، بعضنا يعتقد أن عليه أن يعيش دوما وفق دخله المتاح حاليا، وفي سبيل ذلك يعمل على تقليص قدرته على الإنفاق والاستهلاك في سبيل زيادة المدخرات، وأن في الادخار أمانا للمستقبل، كما أنه يعتقد في الوقت نفسه بأن الاقتراض خطأ فادح، بل صفة معيبة، والبعض الآخر مفرط تماما في الصرف من دخله المحدود، ثم هو مفرط أيضا في الاقتراض، فهو يعتقد أن له حقا معلوما في أموال الناس، ولا غضاضة في ذلك ولا عيب. وللحقيقة فلا النموذج الأول هو القدوة ولا النموذج الآخر هو الصحيح. وعلى كل حال يجب أن يخطط الواحد منا لمستقبله جيدا ويعرف أن الادخار كوسيلة وحيدة لن يحقق مطامحه في الحصول على ما يريد (خاصة تلك السلع المعمرة مثل السيارة الجيدة والمنزل) ولا الاقتراض وحده سيحقق له ذلك، لكن مزيجا من هذا وذاك قد يحقق له ما يريده في الوقت المناسب، لكن من المهم ألا يهدر قدرته على الاقتراض في أمور قد يستطيع الصبر عنها أو تمويلها من خلال بعض الادخار. نلاحظ أن لدى شباب اليوم شهية مفتوحة للحصول على القروض، خاصة مع ما تقدمه البنوك من عروض مختلفة لبطاقات ائتمانية مثيرة، ونماذج للتمويل متنوعة وسهلة ومدهشة، وذلك جنبا إلى جنب مع ما تعج به الأسواق من سلع متنوعة، خاصة تلك الأجهزة الإلكترونية التي تقتنى ''كموضة'' بشكل سريع جدا. فما إن يحصل الشاب على وظيفة بأي راتب فإنه سرعان ما يتقدم بطلب الحصول على بطاقات ائتمانية وطلبات لقروض مضمونة بالراتب. ثم مع تسارع الحياة الحديثة وارتفاع ضريبتها من فواتير الخدمات وارتفاع الأسعار والأقساط الائتمانية ومع سرعة دوران عجلة تنوع الأجهزة والسلع وظهور أنواع جديدة منها فإن الراتب لم يعد وحده قادرا على الاستجابة لكل تلك المتطلبات، فتنهار القدرة على الادخار بسرعة كبيرة ويفشل الشباب في رؤية مستقبل يمكن الحياة فيه من دون اقتراض حتى يصبح الواحد منهم أسيرا لتلك العادة، بل يعالج تراكم الفوائد المستحقة لقرض بقرض جديد أكثر فائدة، لكنه أطول عمرا. حتى إذا جاء موعد الاستحقاقات العائلية الكبرى مثل المنزل والسيارات العائلية الكبيرة وجد دون ذلك جبالا من القروض وسمعة مالية سيئة. المشكلة التي قد لا ينتبه لها الشباب المتعجل في الحصول على الرفاهية هي تكلفة القروض التي ترتفع كلما أفرط في الاقتراض (أي الفوائد التي يجب أن يدفعها كلما اقترض)، إن ذلك يشبه ارتفاع نسبة الكوليسترول في الدم كلما زادت فيه الدهون وأفرط الإنسان في الأطعمة الدسمة، وقد لا يشعر الفرد منا بفداحة الخطأ إلا وهو يصارع الموت بسبب تصلب الشرايين، فالمفرط في الاقتراض يعاني تصلبا في الشرايين التي تمده بالقروض فيفشل في الحصول على النقد في وقت هو في أمس الحاجة إليه لمواجهة ظروف الحياة الصعبة والمتنوعة. فإذا كان سجل الواحد منا مملوءا بقروض مختلفة وتمويل عن طريق التأجير وبطاقات ائتمانية فإن حجم الفوائد التي يدفعها ضخم جدا مهما كان دخله الشهري المحدود طبعا. وعند طلب قرض جديد فإن البنوك تأخذ في الاعتبار حجم الفوائد الضخمة جدا التي يدفعها، وبالتالي فإنها تؤمن نفسها من المخاطر بطلب نسبة فوائد أعلى من المعتاد (هذا في حال قبول طلب القرض). إن الاقتراض سلاح للحصول على النقد ممتاز جدا ولا فرق في ذلك بين الإنسان العادي والشركات، وهنا يختلف الناس وتتنوع المشارب لكن يبقى الفرق هو في القدرة على استخدام السلاح وتوقيت ذلك، وهذا قرار شخصي تماما ويصعب تقديم نموذج واحد أو حتى أفضل ممارسة في ذلك. فالقدرة على استخدام هذه الثروة (أي القدرة على الاقتراض) هي التي تصنع التاجر المحترف، وهي التي تبقي أحدنا في فقر قد لا ينتهي مداه. كما قلت سابقا فإن البعض قد يفرط في القروض ما يهدم الحياة، والبعض الآخر يفرط في الإحجام عن القروض تماما ويراها شرا محضا، وهذا هو الجانب المظلم الآخر من فقه الاقتراض والتمويل لدينا. مع اقتراب الرهن العقاري من الأسواق فإن فرصة الحصول على منزل فرصة كبيرة وحقيقية ولا داعي للتخوف منها أو حتى التخويف منها. الحصول على القرض في حد ذاته ليس عملا سيئا، بل هو استخدام لجزء من شخصيتنا الشاملة ومصادر تمويلنا المتنوعة ويجب ألا نهاب الحصول على القروض (وفق أصوله الشرعية المرعية)، لكن يجب قبل ذلك أن نقيس حجم المخاطر التي سنتكبدها مع أهمية السلعة التي سنحصل عليها وضرورتها ووجود بدائل متاحة لها أو للقرض، وكل ذلك نقارنه بتكلفة القرض وطرق السداد وعدم تأثر حياتنا واليومية بها، إن التخلي ببساطة عن ''قدرتك'' على الحصول على القرض بإهدارها في اقتراض الأموال للحصول على سلع يمكن الصبر عنها، هو كمن ضيع ''فروته'' (يعني العباءة الثقيلة التي تدفئه) في يوم البرد، ولهذا يقال له ''يستاهل البرد من ضيع دفاه''.
إنشرها