استدامة الدين العام
تعد مشكلة المديونية إحدى القضايا الأكثر سخونة في العالم اليوم، حيث انتقلت المديونية من مشكلة تخص الدول النامية أو الفقيرة في الأساس إلى مشكلة أصبحت تؤرق الكثير من الدول الصناعية الكبرى في العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة. فقد تصاعد الدين العام لكثير من الدول إلى مستويات حرجة نتيجة للنمو الهائل في الإنفاق العام الذي صحب الأزمة في ظل ضيق النظرة حول القدرة المالية الحقيقية لهذه الدول على خدمة ديونها على المدى الطويل، الأمر الذي فتح الجدل حول مستقبل الأوضاع المالية لهذه الدول وأهمية الحاجة إلى وضع القطاع الحكومي والإنفاق العام تحت السيطرة.
من بين القضايا التي أصبحت أكثر إثارة للجدل حول مشكلة الديون أيضا قضية استدامة الدين العام للدولة أو استدامة المالية العامة، والتحديات المستقبلية التي يمكن أن تواجهها المالية العامة للدول المدينة نتيجة تصاعد مستويات الدين القائم عليها. ذلك أن إفراط الحكومات في الإنفاق العام الذي يسبب النمو في الدين العام في الوقت الحالي سيمثل عبئا على المالية العامة للدولة في المستقبل، ومن ثم ستتحمل الأجيال القادمة الجانب الأكبر من أعبائه، ما يؤثر سلبا في مستويات رفاهيتهم نتيجة تحمل أعباء لم يشاركوا في اتخاذ القرارات الخاصة بها، بل ربما لم يستفيدوا منها أساسا، وذلك حينما تذهب منفعة هذه الديون بالكامل إلى الجيل الحالي.
بالتأكيد فإن العجز المالي ليس ضارا على طول الخط، بل إنه في كثير من الأحيان يصبح ضرورة، مثل العجز الذي تحققه الدولة كي ترفع به معدلات التوظيف وتقاوم ارتفاع معدلات البطالة، حيث يصبح العجز، ومن ثم الدين العام للدولة من أدوات صناعة الرفاهية في المجتمع وتحسين مستوياتها. من ناحية أخرى إذا كان الإنفاق العام للحكومة في جانب كبير منه يمثل إنفاقا استثماريا لإنشاء مشاريع تنموية تسهم في رفع معدل النمو المستقبلي للاقتصاد، أو أن الحكومة تقوم بالإنفاق على الإصلاحات الهيكلية للاقتصاد كي ترفع من مستويات الكفاءة التي يتمتع بها، فإن الدين الحالي سيكون له قيمة مستقبلية للأجيال القادمة، ومن ثم فإن التكلفة التي ستتحملها الأجيال القادمة ستقابلها أيضا منفعة تعود عليها من هذا الإنفاق، ومن ثم فإن الأثر الصافي للدين يعتمد إذن على السبيل الذي تم استخدامه فيه.
من الناحية النظرية يقصد باستدامة الدين العام أو استدامة المالية العامة للدولة أن سياسات الإنفاق والاستدانة التي تطبقها الدولة لا بد أن تصاغ على النحو الذي يضمن عدم اضطرار الدولة إلى التوقف عن خدمة دينها أو إعلان إفلاسها، ويعني ذلك أن الدين العام المستدام هو الدين الذي تتمكن الدولة من خدمته على نحو يسير نسبيا ولا يؤدي إلى وقوع الدولة في مشكلة التعثر في خدمة الديون. البعض الآخر يعرف استدامة الدين بأنه قدرة الدولة على الوفاء بالتزامات خدمة الدين الحالية والمستقبلية بصورة كاملة وبدون أن تلجأ لطلب إعادة جدولة ديونها أو شطب جانب منها، أو دون أن تلجأ إلى التوقف عن خدمة دينها، ومن ثم تراكم المتأخرات عليها من مدفوعات خدمة الدين، بشرط ألا يترتب على ذلك تقييد النمو فيها، وهو ما يعني أن الموارد المتاحة حاليا للدولة تكفي ليس فقط لسداد احتياجات خدمة دينها العام بها، إنما أيضا لتدبير التمويل اللازم للوفاء بمتطلبات الاستثمار والنمو، وإلا قد تضطر الحكومة إلى رفع معدلات الضرائب فيها على النحو الذي يؤثر سلبا في قرارات الاستثمار لقطاع الأعمال الخاص ومن ثم النمو.
بالطبع كي يكون الدين العام للدولة مستداما لا بد أن تستوفي الدولة بعض المعايير القائمة على حساب مجموعة من المؤشرات التي ربما تختلف من دولة إلى أخرى حسب قوة الهيكل المالي للدولة وديناميكية إيراداتها العامة وهيكل الدين العام من حيث كونه متركزا في الديون قصيرة أو متوسطة أو طويلة الأجل. فالدين قد يكون غير مستدام على المدى القصير إذا كانت نسبة الديون قصيرة الأجل إلى إجمالي الدين القائم على الدولة كبيرة، حيث قد تضطر الدولة إلى الاقتراض من أجل خدمة الدين، لكنه في الوقت نفسه قد يكون مستداما على المدى الطويل، والعكس، وهناك بشكل عام خلاف حول تعيين هذا المدى الزمني بين القصير والطويل. كذلك تعتمد الاستدامة على هيكل ملكية الدين من حيث كونه مملوكا للدائنين في الداخل (دين محلي) أو الخارج (دين خارجي)، حيث غالبا ما تكون خدمة النوع الأول من الدين أسهل بشكل كبير من خدمة النوع الثاني.
من أكثر المؤشرات استخداما لقياس استدامة الدين هي نسبة الدين (أو القيمة الحالية له) إلى الناتج وإلى الصادرات وإلى الإيرادات العامة، كما قد يتم قياس هذه المؤشرات من خلال قياس نسبة مدفوعات خدمة الدين إلى الناتج والصادرات والإيرادات العامة، ويفترض من الناحية النظرية أن تؤدي مثل هذه المؤشرات إلى الربط بين الدين والقدرة على سداد الالتزامات الناجمة عنه، على سبيل المثال فإن نسبة الدين إلى الصادرات تشير إلى مدى وفرة إيرادات النقد الأجنبي للاقتصاد، وهو مقياس ربما يكون مهما عندما يتعلق الأمر باستدامة الدين الخارجي للدولة المقوم بالعملات الأجنبية، كما قد يستخدم مؤشر نسبة الدين إلى الإيرادات العامة، الذي يربط عبء الدين بمدى وفرة الموارد المحلية للدولة لخدمة دينها العام، وهو أكثر مناسبة لحالة الدين المحلي، أما نسبة الدين إلى الناتج فهو مقياس يربط عبء الدين بمقياس أوسع لقدرة الاقتصاد على توليد الدخل اللازمة لخدمة الدين بشكل عام.
غير أن هناك خلافا بين المراقبين حول المؤشرات التي يجب استخدامها في قياس استدامة الدين، فالبعض ينظر إلى هذه المؤشرات على أنها غير مناسبة، وذلك بادعاء أنها في كثير من الأحيان قد تمثل مقاييس غير مناسبة للتعبير عن مستوى السيولة الحقيقي الذي تتمتع به الدولة، خصوصا في حالة الاقتصادات النامية والفقيرة. من ناحية أخرى ينتقد أسلوب قياس هذه المؤشرات على أساس أنه يعاني عيوبا تقلل من درجة اعتمادية هذه المؤشرات لقياس استدامة الدين.
لقياس استدامة الدين غالبا ما يفترض مستويات استرشادية لنسب الدين إلى الناتج أو الإيرادات العامة أو الصادرات، على سبيل المثال تلك النسب التي اقترحها صندوق النقد الدولي لتقييم استدامة الدين في الدول النامية والفقيرة، أو تلك التي تضمنتها اتفاقية ماسترخت للحد الأقصى لنسبة الدين إلى الناتج في الدول الأعضاء في الاتحاد النقدي الأوروبي التي يجب ألا تزيد على 60 في المائة، وواقع الأمر أن مثل هذه النسب تمثل نسبا تحكمية أو استرشادية حول النسب المعقولة للدين إلى الناتج، ذلك أنه لا يوجد أساس لمثل هذه القيم في النظرية الاقتصادية، كما أنه من الناحية العملية قد تكون نسبة الدين إلى الناتج في بعض الحالات أقل من 60 في المائة، ومع ذلك تنخفض درجة استدامة الدين في الدولة على نحو كبير، بينما قد ترتفع النسبة عن 60 في المائة في دولة أخرى، ومع ذلك تظل استدامة الدين في هذه الدولة موثوق بها إلى حد كبير.
وأخيرا فإن من الأمور التي يجب أن ينظر إليها بقدر كبير من الاهتمام هو معدل الفائدة على الدين القائم على الدولة، ذلك أن ارتفاع معدل الفائدة على سندات دين الدولة يمكن أن يؤدي إلى ما يسمى أثر ''كرة الثلج Snow ball effect''، فالمعدل المرتفع للفائدة على سندات الدولة إلى ارتفاع تكلفة خدمة هذه الديون، وإذا لم يحدث نمو في الإيرادات العامة للدولة بنسب مماثلة أو ربما بنسب أكبر، فإن الحكومة ستضطر إلى الاقتراض من أجل خدمة الدين. على سبيل المثال يعد معدل الفائدة الذي تقترض به إسبانيا وإيطاليا حاليا، الذي يساوي 7 في المائة تقريبا غير مستدام، كذلك فإن معدل الفائدة الذي تقترض به اليونان على ديونها قصيرة الأجل يتسبب في تكون كرة ثلج كبيرة في الاقتصاد اليوناني تحول دون تحسن القدرة على تخفيض نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي حتى على المدى الطويل. كذلك فإن مصر تدفع حاليا معدل فائدة يصل إلى نحو 16 في المائة على سنداتها بالجنيه المصري، وهو معدل مرتفع جدا، حيث يتجاوز بشكل كبير نسبة النمو في الناتج وكذلك في الإيرادات العامة للدولة، ومثل هذه المعدل المرتفع للفائدة يؤكد ضرورة أن تجري الحكومة إصلاحا ماليا للسيطرة على عجز الميزانية، وإلا فإن إعلان الدولة إفلاسها سيصبح مسألة وقت.