أزيلوا «الشبوك»

عشت طفولتي في مدينة الطائف. كنا نذهب لنشاهد العرض السينمائي الوحيد في ''القشلة''. القشلة هي الموقع الذي تتجمع فيه الوحدات العسكرية التي كانت تتبع وزارة الدفاع. كنت أستمتع وأنا أمر من أمام الحارس الذي كان في كامل قيافته ويؤدي التحية العسكرية للضباط بشكل جذاب ويقف على منصة خشبية تضخم صوت نزول قدمه عليها.
البوابة هي المكان الوحيد الذي يمكن أن تعبر منه إلى القشلة، يحيط بالقشلة حائط من الحجارة بناه العثمانيون. عدت بعد سنين لأجد القشلة وقد تحولت إلى مجمع للدوائر الحكومية. اختفت تلك الحجارة الجميلة التي كانت تحيط بها، استبدلت بسور أسمنتي، ليبقى الحاجز.
إنه السور الذي يحيط بكل منشأة بنتها الدولة تقريباً. المستشفى داخل سور، والمدرسة داخل سور، والوزارة داخل سور، والهيئة داخل سور. حتى لكأن المرء يتوقع أن يكون السور هو أول ما تفكر الجهة في إنشائه، فإن لم تستطع فإنها تستخدم البديل الأرخص والأقبح وهو ''الشبك''.
سافرت بعد سنين للدراسة في الولايات المتحدة. استغربت كيف أن هذه الدولة العظمى لا تؤمن بالسور أو الشبك إلا كوسيلة أمنية للمنشآت الحساسة. المدرسة مفتوحة والمستشفى مفتوح ومجلس الشيوخ مفتوح وكل مكان تقريباً لا يحظى بتلك الميزة التي تحيط بكل شيء عندنا. حتى إنني رثيت لحال طلبة أمريكا فهم لا يجدون سوراً يتسلقونه للهرب من المدرسة، فيضطرون للبقاء داخلها.
تطور العالم وتغيرت المفاهيم إلا مفهوم التسوير والتشبيك. تبدأ الجهة بطلب مشروع لتشبيك أراضيها، حماية لها من ''لصوص'' الأرض، وكأن الصكوك لا تعني شيئاً. فإذا اكتمل الشبك، جاء من يطالب بتسوير المنطقة لتجميل شكل الموقع وضمان ملكية الأرض، ويتم التسوير.
أستغرب كيف تكون جامعة مسورة. ولم يسأل أحد نفسه لماذا تحيط الجامعة نفسها بسور لا معنى له سوى كتم الحرية، وإبعادها عن التفاعل مع المجتمع. كيف يمكن أن يحاط مركز ترفيهي بسور لا يمكن رؤية ما وراءه. لماذا كل منتجعاتنا مشبكة بشكل يعطيك الانطباع أنها قلاع وليست أماكن ترفيه؟
يرى الكثير من المؤمنين بـ ''التشبيك'' أن هذا يعطي المكان خصوصية، وقد يكون هذا صحيحاً، لكنه في حالة المواقع التي تخدم الناس أو تسعى لترفيههم لا يعدو كونه حاجزاً يعوق الاستفادة من كل الأرض التي تملكها المنشأة. لدرجة أن الكثير من هذه الجهات تضطر لاستئجار مبان لتغطية احتياجها من المنشآت، وقد يكون استخدام كامل الأرض المملوكة كافياً لتوفير كل الخدمات في موقع واحد.
غرض الفصل بين المنشآت أو المرافق ذات الأغراض المختلفة، قد لا يكون مبرراً لأن تجد أكثر من سور وشبك داخل المنشأة الواحدة. يلاحظ الجميع أن بعض المستشفيات والجامعات والجهات الحكومية تفصل بين أقسامها أو إداراتها بالأسوار والشبوك، ولن تجد من يستطيع تبرير ذلك.
أصابت هذه اللوثة الكثير من ملاك الأراضي لدرجة أنك تجدهم ''يشبكون'' أراضي في الصحراء بمساحات شاسعة. هذه الشبوك أصبحت منتشرة لدرجة تشكك في حقيقة ملكية كل هذه الأراضي لمن '' شبكها''. يبدو أن هناك أسبابا تدعو الناس للتشبيك:
- الأهم وهو الخوف من أن يأتي أحد الهوامير و''يبلع'' الأرض بحكم إدمانه ''التهام'' الأراضي. لقد انتشرت ظاهرة الصكوك المتعددة على أرض واحدة. طبعاً سيحكم لصاحب الصك الأول، لكن التواريخ قابلة للتعديل، وصكوك أراضي جدة تشهد.
- يمكن أن يكون التشبيك المرحلة الأولى في ''ابتلاع'' الأرض، حيث يأتي اللص ويشبك الأرض بعد تنفيذ دراساته، فإن لم يعارضه أحد بدأ إجراءات تملك الأرض وحيازتها، والشهود متوافرون في كل مكان.
- كما يمكن أن يكون الشبك وسيلة لضم أراض مجاورة. أذكر أن أحدهم حصل على منحة وبعدما تعرف عليها وتسلمها، أنشأ شبكاً يعادل مساحة أرضه عشر مرات، وصبر بضع سنين، ثم أنشأ محطة وقود وأسواق في المنطقة التي لا يملكها، وتقدم بطلب تملك وحصل عليها.
- يمتهن البعض وظيفة ''الجمع بين رأسين''، فهم يبحثون عن الأراضي التي يمكن أن يقدموها هدايا، ويقومون بتشبيكها ومن ثم تقديمها لـ ''معازيبهم'' الذين تتوافر لديهم القدرة على تملكها بطرقهم الخاصة.
هناك الكثير من الدواعي التي تجعل الشبك مطروقاً في هذا الوطن الكبير، الذي رغم مساحته الشاسعة ظل كل واحد يحاول أن يشبك قطعة منه. لكن الشبك والسور والحارس التي رفضها الشاعر الأمير بدر بن عبد المحسن لا تعدو أن تكون تجسيداً لمشاعر الخوف أو البطر أو السرقة.
لهذا أدعو لمحاربة جميع أنواع الأسوار والشبوك داخل المدن وخارجها. لنفتح المستشفيات للمرضى دون حواجز، ولنجعل المدرسة جزءاً من المجتمع لا يضطر طلبتها للقفز فوق أسوارها، ولتكن الجامعة مكاناً يجمع بين العلم والترفيه وجامعاً لكل الناس وليس الطلبة والأساتذة فقط. ولنتخلص من كل الشبوك التي تشوه البلاد وتحرم المواطن من قطعة أرض صغيرة سواء كانت 300 متر كما اقترح وزير المالية أو 500 متر كما اقترح وزير الإسكان. والأجمل أن نبدأ بتكسير أسوار فللنا التي تحبسنا عن العالم.

المزيد من الرأي