Author

مهند بودية.. أسطورة حيّة

|
* أهلاً بكم في ''مقتطفات الجمعة'' رقم 433 *** * حافز الجمعة: (.. فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) - الحج: 46. *** * هناك فرق بين العقل الإنتاجي والعقل الإبداعي. ومثل العقل الإنتاجي صديقي الخياط ''علم مياه'' إنه يخيط بغزارة أكثر من 200 ثوب سنويا، هو حقا منتج. ولكن، هل صديقي ''علم مياه'' مبدع؟ لا. الإنتاج يعني الوفرة في نتائج العمل. ''علم مياه'' صديقي، ينتج ذات الثوب بذات المواصفات بذات المحاكاة لموديلات السوق، فهل يعد مبدعا؟ قطعا لا. هذا هو العقل الإنتاجي، فيه تفكير، فيه تكريس، فيه جودة، وليس فيه تجديد ينقل الثوبَ من مرحلةٍ إلى مرحلة جديدة أخرى. *** * العقل الإبداعي، غير العقل الإنتاجي، وكلاهما جناحا تحليق الحضارة الإنسانية بأعاليها، ولم يكن ممكنا لحضارة ومدنية البشر إلا أن تحلق بجناحي الإنتاج والإبداع.. إن عقلَ المبدعِ مزعج وملح يقلق صاحبه على الدوام بجملةٍ لا تتغير: ''هيا اذهب لمكان آخر، لا تقف هنا''. ولأن العقول المبدعة لا يمكنها الثبات في موقف واحد ظرفا ولا موضوعا، فلا يمكن لصاحب العقل المبدع أن يقضي حياته ينتج أثواب صديقي ''علم مياه''. الوقوف في مكان واحد مهما كان المكان منطق لا يفهمه العقلُ المبدع.. لو أن الحياةَ تنتهي عند قمة واحدة لانتهى المبدعون.. هم بحاجةٍ دوما لتحدٍّ آخر، بحاجة دوما لقمّةٍ أخرى. قدَرُهم! *** * شخصية الأسبوع: عرفته شابا صغيرا خجولا يتلعثم أدبا إذا تكلم مع من يحترم.. وهنا بداية القصة: وقتها كنا نعمل على جمعية المخترعين السعوديين، وتصدى لها مخترعٌ بطلُ لم أرَ من يحب هذه البلاد مثله - وليتكم تعودون لمَا كتبته عن العقل المبدع الكبير يوسف السحّار - تقاطر المخترعون من كافة أنحاء المملكة منذ أكثر من خمس سنوات للقاء معي في الدمام، ليعرضوا جمعيتهم المزمعين تكوينها، وعن مصاعب كأداء تعترض الطريق، ثم قال يوسف: سنجعل بيننا شابا منسقا، طالب في جامعة البترول اسمه ''مهند بودية'' مخترع ببداياته، ينتظره شأنٌ عظيم. تواصل معي مهند، ثم نمَتْ بيننا علاقة أكثر من العلاقة العادية للأصدقاء، فهو لا يناديني إلا عمي نجيب، وأنا أزهو ويقفز قلبي للمناداة. نسقنا مع أخي هشام الزامل كصناعي يحب الابتكار ليساهم في التمويل مالا وفكرا.. ثم حددت موعدا لمهند مع الأخ هشام، كلمني مهند بعد اللقاء: ''عمي نجيب أنا أسعد إنسان اليوم؟'' - ليه حبيبي؟ - ''لأني قابلت عمي هشام ودعمني وصار بيننا ود، ولأني سأغادر لجازان بالغد كي أتزوج. ''أذكر أني وقتها أطلقتُ زغرودةً بشعة الصوت وهي إمكاناتي، لكن مهند لم يكف عن الضحك. ذهب مهند، ثم بعد أيام قليلة وصلني خبر الحادث الذي فقد فيه نظره وساقه - وساهم في ذلك إهمال مستشفى.. وكتبت مقالا باحتجاج حزين بعنوان: ''من قطع ساقك يا مهند؟'' على أن مهند خذل الحزنَ.. ودمعتُ أمس فرحا لما هاتفني بيوم تخرجه، وكان قد ألقى خطاب الخريجين. *** * نمت صداقة بين الأخ هشام ومهند بودية، وألحّ علي أن نزوره والجراح ما زلت جديدة. كنت خائفا مترددا لا يمكن أن أرى وجه الحبيب الباسم الخجول بحالته.. مرة أخرى يذهلني مهند باستقبال مع أبيه العظيم ''جبريل بودية''.. وكانت ضحكته وتهليله يملآن ممر مستشفى الحرس الوطني في الرياض.. يومها قال لي جملة لا أنساها: ''عمي نجيب أنت تحب أفلام الإثارة.. ما رأيك أن حياتي كفِيلم.. واليوم بدأ ''الأكشن!''. من بعد إصابة مهند المزدوجة، وتصديقا لما قلته في الجمعة الماضي هنا، إن الله لا يُنقص، بل يعوِّض ويدهشنا بالتعويض.. صار مهند واحدا من أعلام الأمة في سنٍّ يافعة، صار رمزا للأمل والذكاء، والتفاؤل، والإصرار الجبار.. زادت اختراعاته، وبعقله تسلق قمما جديدة، وأصبح الأعمى الشابُ منارة في الخليج والعالم العربي ينير لجيله الأملَ وحبّ الاختراع، وقوة الإيمان بالعقل الإنساني المبدع. *** * أنقل شكرا قلبيا للدكتور خالد السلطان مدير جامعة الملك فهد للبترول، وكنا نتحدث يوما عن مراجعة طلب مهند لإكمال دراسته في هندسة الفضاء بالجامعة، فحلم مهند أن يكون أول مهندس فضاء كفيفٍ في العالم.. لم يتردد الدكتور خالد، وهنا عظمة الرجال القادة الذين يعرفون أن الأنظمة يجب أن تكون مع الإبداع، وبالذات الأنظمة الجامعية، حتى لو كان النصّ لا يشير إلى ذلك.. وضع الدكتور خالد نفسه وجامعته في تحدٍّ وأعطى مهند الفرصة. كدّ مهند بإعجاز، يتصل بانتظام ويخبرني ليطمئنني. لم يشكُ ولا مرة، لم يذكر صعوبة واحدة، وجملته اللازمة: ''كل شيء تمام عمي''. غيّر تخصصه الهندسي لأمور فوق قدرة الجميع، وبقى متخصصا في الهندسة. لم يسعني الحضور، ولكنه لم ينس أن يهاتفني مع الصديق الكبير الأستاذ جمال الدبل وقال كلاما لن أنقله هنا.. لن أستطيع. *** * والمهم: أجمل ما قيل لي تغريدة من الشاب ''عبد الرحمن العفالق'' ونبارك له التخرج: ''لم يصمت مهند عن الكلام عنك مبتسما، فكنت الغائب الحاضر'' واه!
إنشرها