Author

غيرةُ آلهتين..

|
.. رغم خرافة أساطير الهندوس الدينية، إلا أننا نستلهم في بعضها حكمةَ العقل لا صدقَ العقيدة. بالمعتقد الهندوسي أن هناك ربّتيْن، واحدة اسمها "ساراسفاتي" وهي الربّةُ الخرافية المسؤولة عن المعرفة، والأخرى اسمها "لـَكْشِمي" الربّة الخرافية المسؤولة عن الثراء، وبما أنهما امرأتان فحربُ الغَيرةِ قائمة بينهما بلا هوادة. والديانة الهندوكية منظومة قصص مرويّةٍ بأشعارٍ مقدّسةٍ، ونصوص كتابهم المقدس قصيدة تعدت نصف المليون بيت كأطول قصيدة بكل التاريخ، فكل من جاء من البراهمات (الطبقة الدينية) أضاف إليها عدة أبيات وهكذا. إحدى القصص فيها الكثيرُ من العِبَر، وأرجو الانتباه لمغزاها فرغم خرافية المعتقد إلا أن العقلَ الهندي من الأزمان القديمة مبنيٌ على التأمل الحكيم.. لذا عُرفتْ الفلسفةُ الهندية، بل البلاد الهندية بأرض الحكمة. والقصة تقول إن شاباً ذهب لسيّده الروحي وقال له: "يا معلمي إني ذاهب للغابة العظيمة أبحث عن الثروة الكبيرة، وعندما أحصل على الثروة فإني سأساعد الناس بمالي، وأداوي جروح العالم". ضحك المعلمُ وقرّبه إليه وقال له: إن في قلب كل هندوسي آلهتين هما "سارسفاتي" آلهة المعرفة، و"لكشمي" آلهة الثروة.. ومن طبع النساء الغَيرة فلا يقبلن أن تركز عليهن كلهن خضوعك ومحبتك في وقتٍ واحد (والحقيقة أن الديانة الهندوكية مليئة أيضاً بالآلهة الذكور الذين لا يتحمّلون وجود إله آخر بجانبهم بنفس الدعاء واللحظة والخضوع، لذا يبدل الهندوسي الآلهة حسب مقتضى الحاجة والتخصص والظرف)، وتابع المعلم: "وأنصحك يا بُني باتباع أولا الآلهة "سارسفاتي"، صاحبة المعرفة، اخضع لها واتبع طريقها وانهل المعرفة من أي مكان وبأي كمية ومن أي مصدر، أما الآلهة الأخرى صاحبة الثروة "لكشمي" فكلما ركزتَ محبتك وانتباهك للآلهة "سارسفاتي" فإنها ستتقلب من فرط الغيرة وستدفعها هذه الغيرة المتأججة لجذبك لها بكل إغواء ووسيلتها للإغواء هي الثروة. فكلّما تبعت مخلصا آلهة المعرفة تبعتكَ بحرصٍ آلهةُ الثراء لأي مكان تذهب إليه وتستقر به، عندها تنتهي وبيدك المعرفة والثروة معا.. المعرفةُ كي تعرف كيف تداوي جراحَ العالم، وكي ترسم طريق نجاحك الشخصي. والثروة لتقدم لك وسيلة العمل لتحقيق الطموح. عبرة القصة الهندوكية أن القوة دوما بالنفس الجسور المستعدة للتحدي، التي لا تهاب آجامَ الغاباتِ ولا ضواريها ولا كواسرها ولا زواحفها، وأن تكون هذه النفس الشجاعة مزودة بالرغبة النبيلة، وليست الرغبة الجامحة الرعناء الأنانية التي تبحث عن مجد النفس على رؤوس الآخرين أو هرس أجسادهم، أو طحن طموحاتهم، أو سرقة افكارهم وأعمالهم.. وإنما الرغبة التي تريد أن تقدم الشفاءَ لجروح الناس، المداوية المواسية العاملة لنشر التفاؤل والبهجة والنجاح للجميع، فتكون هذه الأشياءُ عتباتُ الصعود للمجد الشخصي بلا تخطيط ولا رغبة سابقة وإنما نتيجة فرعية لرغبة أساسية كان مصبها الخير الإنساني بعمومه. وفي النهاية نجد أن النفسَ الجسور المقدامة المزودة بالرغبة الإنسانية الخيّرة النبيلة هي مفاتيح كنوز الثروة. الدكتور "عبد الرحمن السميط"، رفع الله عنه، مثالٌ من أمثلة كثيرة، ولكنه مثال شاهق. كان طبيباً شاباً بسيطاً بمستشفى الصباح بالكويت، وكانت روحه مقدامة وثّابة لا تهاب ولا ترتجف لتحقيق رغبتها، ورغبتها كانت نبيلة في إنقاذ مسلمي إفريقيا بالنور والمعرفة وطرائق الاقتصاد الأساسية ليسترزقوا بأنفسهم لأنفسِهم، وتوافرت له أموالٌ كبيرة لتحقيق أكبر حلم حققه إنسانٌ حتى الآن مع شباب عاملين بكل جنوب ووسط إفريقيا.. كان بإمكانه وببساطة أن يصبح ثريّاً كنتيجةٍ عفويةٍ، لولا أن الرغبة كانت أقوى من الثراء، أو رجوعاً للقصة الهندية وجد المالَ وداوى به جروح العالم. دائماً ابحثوا عن المعرفة، لكن لو لهَمْتَ معارفَ الدنيا برغبة مسطحة أنانية فلن تفيد ولن تستفيد، وإن جاءك المالُ ستعيش شقيا قلقا متعبا خائفا، المعرفة غير مُجديةٍ بدون نفس نبيلة.. وبدون رغبة في إصلاح العالم حولك. إن إصلاح حجرة بجانب عتبة بيتك هي إعلان بدء حملة كونية لإعادة بناء العالم.. هكذا منطق قوانين العمل الفيزيائي، قانونٌ من القوانين الصارمة التي وضعها اللهُ في ضمير الكون. وجدت أن كثيراً سعوا فقط لِـ "لاكشمي"، وفي النهاية أضاعوا الاثنتين؛ لاكشمي، وسارسفاتي. أضاعوا الثروةَ لأنهم أضاعوا من قبل المعرفة.
إنشرها