Author

المراهقون: أطلق يديّا!

|
..نسرف في لوم الشباب المراهقين، ونتحسر على طاقاتهم مهدورةً بهذه الصرعات المبتذلة من الإسفاف في المسلك وفي المظهر وخواء القلب والعقل، وأقفُ محتجا على هذا اللوم، لأوجه سؤالا لنفسي وللمجتمع: ماذا قدمنا لهذه الفئة المنسية من المراهقات والمراهقين قبل أن نبدأ حملات اللوم والتقريع؟ ما قُدِّم لهم سوى الخواء، سوى الإسفاف في برامج التلفزيون من المحطات التي تبرز برامج الشباب بالموسيقى والغناء الناعق، وبالتصرفات المتكسرة خلاعة وميعة، وسقوطا في تقديم أفكار شبابية عصرية، إن كانت هناك أفكار في الأصل! ولم أجد صحيفة أو مجلة متخصصة للشباب المراهقين والمراهقات إلا ما يؤجج سعيرَ هذا الفرن من الهرمونات الفائرة في أجسادهم.. ونادينا ببرامج وصفحات في الجرائد متخصصة، يقدمها الشبابُ ويحررها الشبابُ ويكون مراسلوها من الشباب، تعنى بالثقافة والشأن الروحي والاجتماعي، وتغطية الفعاليات المحلية، والمشاركة بالرأي، لإنضاج شخصية المراهق وإعداده للاستقلالية الشخصية، التي تعني الاعتماد على الذات، وبناء الرأي والقدرة للإبحار بيسر عبر موج بحر الحياة، وليكون مساهما إيجابيا في المجتمع المحيط. هذا من جهة.. من جهة أخرى، قرأت مقالا في جريدة غربية عن أن "السعوديين ناموا طويلا، ثم استيقظوا على ما يسمونه الحوار الوطني، ولكن كردة فعل على الضغوط التي تصب على رؤوسهم من أكثر من مكان، وأكثر من سبب. أين كان الحوار أثناء ذلك السبات الطويل"؟.. سؤال محيرٌ بالفعل، هل ما نقوم به من محاولات حثيثة لتفعيل الحوار وبناء تقاليده السليمة والرفيعة هو مجرد ردود أفعال؟.. ويتصل السؤال بالتداعي: هل ما نقوم به من إعادة هندسة بناء مناهجنا التعليمية أيضا مجرد ردة فعل؟.. هل يصدق فينا قول تلك الجريدة؟: "السعوديون مجرد شعب من ردود الأفعال".. لا بد أن تساؤلات مثل هذه تعلـَقُ في جدار لذهن كما يتعلق العلـق اللزجُ ولا ينقشع.. ولكن الذي يهمنا هو الفعل بحد ذاته إن كان صحيحا أو غير صحيح، وهذا ما جلب إلى ذاكرتي ما حدث قبل أعوام، وأكد أن المهم نتيجة الفعل، وليس السببُ وراء الفعل! وقتها دعيتُ إلى ندوة حوار بين طلاب، أقامتها إدارة التعليم في المنطقة الشرقية، وكانت الفكرة رائدة، مجموعة من شباب المدارس الثانوية في رمق العمر الزاهي يتحاورون أمامنا عن الحوار ومعنى الحوار.. وكنت أتثاءب قليلا قبل بدء البرنامج، فأنا مثل غير قليل منا مللت من روتين البرامج والندوات المكررة والقوالب الجامدة، التي إما تخدر المشاهدين، وإما تقع على رؤوسهم أحجارا من رواجم الملل، والكلُّ ينتظر الفرجَ حين تُعلن نهايةُ الندوة أو البرنامج.. على أنني لم أستطع أن أسأمَ ولو لبرهة، كنت طوال الوقت على أطراف أعصابي من التيقظ، والإعجاب ومع كثير من الانبهار، وأضف عليه الفرح الذي يجعلك تفرك عينيك غير مصدق ما تراه. مراهقون صغار، تحدثوا بطلاقة، وبعربيةٍ صريحة، وبفهم مستقيم، وبتهذيب حواري عال، وبثقافة لافتة، بل لافتة جدا! تصور أنهم أخذوا كلمتي "الجدل والحوار"، وفككوهما، كأحسن ما يفعل النقادُ التفكيكيون، وطلعوا معانيها وأزالوا لبسَ فهمها، وأيدوها باللغة والمنطق وأمثلة وشواهد بآيات من القرآن الكريم عفو الخاطر، وبحضورٍ سامق للبديهة. تكلموا وأفصحوا بلا مواربة، وبلا فجاجة عن ضعف مهارة الحوار بمجتمعنا، ووجهوا لنا نحن الكبار أصابع اتهام متوارية - وبذكاء لا يخلو من العتب - بأننا ساهمنا بتربيتنا وبطبعنا وبخوفنا وبتخوفنا من الحوار، وألقمناه لأبنائنا وأجيالنا الطالعة المتفتحة، ولذا أسكتناهم، كما أسكتنا أنفسَنا عندما تقرع الأبوابَ بداخلنا ثورة الاحتجاج، وطلب الفهم، والتنفيس عن البخار الذي يغلي بالأدمغة.. هذا هو الذي ولـَّدَ الصمتَ الظاهر، والغضبَ الباطن، الذي كبر فيما بعد احتجاجا تفاوتت درجاته من الرفض، إلى تجنب المجتمع، ثم الغلو والتكفير من طرف، والضياع في الشك واللامبالاة بالطرف الآخر. وكنت أتابع الندوة وكأن غشاوات تنقشع عن عينَيّ. لأول مرة نواجه المراهقين أو بالدقة هم يواجهوننا ونسمع ما في داخلهم.. علمونا أن ننزل من عليائنا التصوري بأننا الأعقل والأعرف لمصلحتهم، وأن عليهم أن يغلقوا أفواههم، ويعطلوا أفكارهم، ويتبعونا منقادين فنحن فقط نعرف الطريق، فنقوم بالتفكير عنهم، والكلام عنهم. ها هم يعرفون الكثير، وهذه المعرفة لا ينقصها إلا أن تصقل بالخبرة والتوجيه في مقابلات الحياة.. كان يجب أن نعرف أن لهم القوة لكي يعرفوا، فننزل ونتحاور معهم ثم نرتفع معا لنعطيهم من خبراتنا كزادٍ لهم في رحلة الحياة، ونتركهم يمضون بثقة وعيوننا ترعاهم.. بعد ذاك لن نخاف من ترك أيادينا لأياديهم، لينطلقوا..
إنشرها