Author

جبر من بطن أمه للقبر

|
يعرف الكثير منا معنى هذا المثل وقصته ومبررات وجوده وطرحه. ليسمح لي القارئ العزيز باسترجاع قصة المثل وروايتها بتصرف. يحكى أن شخصا اسمه جبر زار إحدى المدن لأول مرة وعندما حان وقت الصلاة توجه للمسجد. وبعد انتهاء الصلاة وجدت جنازة لرجل طاعن في السن تمت الصلاة عليها وشاركهم جبر الذهاب إلى المقبرة بحثا عن الأجر والثواب. وفي داخل المقبرة وعند دفن الرجل كتبوا على قبره إنه توفى عن عمر قدره ستين يوما. فأثار هذا الأمر استغرابه وسأل أحد الموجودين بتعجب عما يشاهده من تناقض بين شكل وهيئة الميت وما كتب على قبره. فأشار بيده إلى القبور المحيطة بهم وقال: انظر، فوجد أن أغلب الموتى أعمارهم صغيرة كما هو مكتوب على شواهد القبور فزاد ذلك من استغرابه وتعجبه. ولكن الرجل أوضح له أن أهل هذه المدينة يحسبون العمر بعدد أيام السعادة في حياة الميت، وقد تجد أن الرجل الطاعن في السن عمره عندهم عدد من الأيام بينما الشاب الصغير المتوفى قد يكون عمره أكبر من كثير من الرجال الذي يفوقونه في العمر الحقيقي المتعارف عليه عند سائر الخلق. وعندما سمع جبر ذلك واستوعب فلسفة أهل هذه المدينة قال مقولته المشهورة إذا مت اكتبوا على قبري (جبر من بطن أمه للقبر) كناية عن عدم تمتعه بأي أيام جميلة وسعيدة خلال مشواره الحياتي. ومع أن هذه القصة رمزية، إلا أن لها أهمية من الناحية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية وهي تستحق الدراسة والتأمل في عالم اليوم وما يجري فيه من هيمنة على الثروات والأموال والمناصب لدرجة أن بعض الطبقات الاجتماعية قد يصل أعمار أفرادها ''حسب قصة جبر'' إلى أكثر من أعمارهم الحقيقية نتيجة جمعهم لعدد من المميزات الحياتية التي تمكنهم من نسف كل نظريات العمل والاقتصاد وإمكانات تكوين الثروة أو القدرة الإدارية المتعارف عليها. وقد يقول قائل إن ما يصل إلى الإنسان وما يحصل عليه هو نصيبه وحظه؛ ولذا لا داعي لمثل هذه الأطروحات المتطرفة. هذا القول يمكن أن يكون صحيحا إذا وقع ضمن حدود المعقول والممكن. كما أنه قد يكون مقبولا في حالة عدم وجود نظام دولة يقوم على القوانين والنواميس التي تهدف إلى تحقيق العدالة وإعطاء كل ذي حق حقه وعدم السماح بتجاوز هذه الأنظمة وكسرها في سبيل الحصول على نصيب الآخرين والتقاط اللقمة والفرصة من حلوقهم ومن بين أيديهم. لقد تمكنت نظرية جبر لدى بعض الأفراد أو الطبقات حتى أصبح وجود شاب عمره لا يتجاوز ثمانية عشر أو تسعة عشر يدير شركات بمئات الملايين؛ وذلك لأن أخاه أو والده يدير جهازا يمكنه من الحصول على هذه الثروات. لم يعد مستغربا في المجتمع أن يتقاعد المسؤول الكبير هذا اليوم ويبدأ من يوم الغد بإدارة شركته العملاقة التي لها من الأصول ما يوازي ميزانية بعض الدول. هذه الشركة لم تنبت من الأرض أو تنزل من السماء في لحظة، لكنها تكونت خلال سنوات تربع هذا المسؤول واستخدامه لسلطاته وعلاقاته دون أن تتمكن الأجهزة الرقابية أو الأنظمة المسنونة من الوقوف في وجهه وردعه عن استباحة المال العام. إن الفساد لا يرتبط فقط بموظف صغير حصل على رشوة - مع أن ذلك كبير وكبيرة - ولا بمستثمر استطاع أن يزيد ثروته بالحصول على أرض أو مناقصة بطريق غير مشروع. إن قمة الفساد هي عندما تتكون الشبكات وتقنن العلاقات المصلحية المتبادلة بين فئات توزع أدوارها وتنمي ثروتها وتحدد لكل فرد من أفرادها موقعه ومسؤوليته في منظومة الإمبراطورية المالية والوظيفية المغلقة عليهم بالممارسة والواقع وليس بالقانون أو الحق. إذا كان مثل جبر يعني تقليل عمر الإنسان في ذلك الوقت، فإن جبر هذا اليوم يقدم نموذجا عكسيا وينتج مثلا فيه بعض الناس أعمارهم بمئات السنين وقد يصل إلى آلاف السنين. إن عصرنا اليوم يوجد فيه الكثير من جبر الذي يبدأ عمره قبل أن يولد ويستمر بعد أن يموت. فسبحان مقدر الأرزاق الذي يمهل ولا يهمل كل خارج عن طريق الحق والعدل. ماذا لو؟ ماذا لو طورت كل من هيئة مكافحة الفساد ومصلحة الزكاة والدخل والمباحث الإدارية نظاما وبرنامجا تقنيا يمكنهم من متابعة تكون وتضخم الثروات.
إنشرها