Author

خواطر الشقيري

|
كلما أشاهد برنامج خواطر للمبدع أحمد الشقيري، ينتابني شعور من الإحباط الممزوج بالحسرة والخجل. ولكي أكون صادقاً، فلم أشاهد جميع حلقات هذا العام، لكن مشاهدة حلقة (الحكومة في خدمة الشعب) المتميزة كانت كافية لإعادة هذا الشعور الذي ينتابني به كلما شاهدت هذا البرنامج على مدى السنوات السابقة، والذي يبدو أنه أصبح متلازمة خاصة بهذا البرنامج تصيب كل من يشاهده. البرنامج يتميز بأنه يصدم المشاهد بالواقع، ويجعله يتعرف على موقعه الحقيقي على سلم التقدم، بتقديم نماذج حضارية متميزة وغير تقليدية، تغاير بشكل كبير ما يعيشه المواطن على أرض الواقع، فيرى أمامه طريقاً طويلاً ووعراً للوصول إلى مصاف الدول المتقدمة. وهو في كل حلقة يركز على ترسيخ مبدأ إسلامي أصيل، وهو مبدأ الإحسان، الذي يمثل مرتبة عليا في مراقبة النفس، والحرص على إتقان العمل. وهو مبدأ لو تم ترسيخه في أذهان الأفراد، وتبنته الدول، لكان كفيلاً بالوصول بها إلى أعلى درجات التقدم الاقتصادي والاجتماعي والمعرفي في سنوات قليلة. ومن أجمل ما شدني في هذا البرنامج، ما أشار إليه مسؤول إدارة الإقامة والجوازات في إمارة دبي، بأنهم يعملون وفق مبدأ (رضا الناس غاية تدرك)، وهو فعلاً يمثل قمة الطموح والشفافية والثقة، التي جعلت هذا المسؤول يقول (صوروا ما تشاءون، فليس لدينا ما نخفيه). الخدمة المتنقلة للجوازات (أمر) تدل على رؤية بعيدة المدى تخترق جميع الحواجز البيروقراطية، وتقدم الخدمة على باب العميل. خدمة تجاوزت المفهوم التقليدي للخدمات الحكومية حتى في أكثر الدول تقدماً. هذا يعني أننا نستطيع أن نقدم ما لم تستطع الدول الأخرى تقديمه، وتأسيس ذلك على مفهوم وقيمة إسلامية حضارية (الإحسان) لواجبات الدولة تجاه المواطن والمقيم على حد سواء. ومع ذلك، فلم يستطع الكثيرون تقبل فكرة البرنامج، وضاقوا به ذرعاً، وبمثاليته الزائدة، لأنه جعلهم يعيدون تصنيف الإنجازات، ولأنه فتح باباً للمقارنات. البلوغ للقمة شيء صعب، لكنه يكون أسهل عندما نتقبل فكرة إمكانية ذلك، وإذا تم تسخير الإمكانات والجهود لتحقيقه. أهم ما في حلقة (الحكومة في خدمة الشعب) ليس فقط السرعة والكفاءة في تقديم الخدمة، ولكن في الرسالة التي تضمنت إعادة صياغة لمفهوم العلاقة بين المواطن والخدمات الحكومية المقدمة، في شكل علاقة بين مؤسسة تقدم الخدمة وعميل يستفيد منها. وهذا يجعل ـــ رضا العميل ـــ هو الهدف الذي تتمحور حوله كل الجهود. الكفاءة في عمل الحكومة، عنصر أساسي من عناصر التقدم والنمو الاقتصادي. فهي تمثل المحرك الرئيس للتنمية، من خلال توزيع الموارد المحدودة على أوجه الإنتاج المختلفة. وإذا لم يكن هذا التوزيع كفئاً، فإن ذلك سيؤدي إلى فاقد كثير Waste يستنزف موارد الدولة عاماً بعد عام، وقد يورث للأجيال المقبلة عبئاً كبيراً سيكون من الصعب التعامل معه. لذلك، فإن التركيز على هذا الجانب ـــ كفاءة الدولة في إدارة مواردها ـــ كفيل بتحقيق تقدم ونمو اقتصادي سريع. وفي دول مجلس التعاون بشكل خاص، تساهم الدولة بنسبة كبيرة في الناتج المحلي الإجمالي ـــ الذي يمثل مجموع ما ينتجه المجتمع من سلع وخدمات ـــ مما يرتب علينا أولوية أكثر من غيرنا في العناية بهذا الناتج بالتركيز على زيادة كفاءة الخدمات التي تقدمها الحكومة. ومما ميز برنامج خواطر في حلقة (الحكومة في خدمة الشعب)، وفي حلقات أخرى أيضاً، أنه لم يقتصر على نموذج واحد، وإنما قدم عدة نماذج لدول مختلفة وبأحجام اقتصادية متفاوتة. فحجم اقتصاد تركيا وحجم السكان فيها، لم يمنعها من البحث عن أفكار إبداعية للتغلب على مشكلاتها، وتقديم مستوى خدمات حكومية متميزة. هذا بالطبع سبب رئيس لوضع تركيا على قائمة دول الاقتصادات الصاعدة الواعدة بمستقبل متميز ومنافس، كما أنها أصبحت أحد أكثر الدول جذباً للاستثمارات الأجنبية. وأخيراً أتمنى أن تكون خواطر الشقيري حافزاً للكثير من المسؤولين للخروج من قالب التفكير التقليدي في كيفية إدارة الخدمات العامة للحكومة، والخروج بنماذج إدارية متميزة في جميع المجالات. المسؤولية، الشفافية، المحاسبة، الحقوق، الواجبات، السرعة، الكفاءة، الإبداع، مفاهيم يجب أن تكون موجودة في قاموس الإدارة الحكومية لكي تحقق النجاح والتقدم، وتكون فعلاً وسيلة لحفز النمو الاقتصادي والتقدم الاجتماعي. مجالات كثيرة لدينا تفتقد هذه المفاهيم، بما فيها التعليم، الصحة، المواصلات، وغيرها من القطاعات الاقتصادية التي تشكل الأعضاء الحيوية للنظام الاقتصادي ككل. ولنتذكر أن الاقتصاد لا يمكنه أن يسير بقلب ضعيف، أو برئة لا تتنفس جيداً، أو بأقدام ضعيفة، أو بعقل مقفل.
إنشرها