سيّدُ الجرأةِ والخوف رمضانيات - 1

.. لما توسعتْ الدولةُ الإسلامية بالفتوحاتِ ولامست عصوراً وحضاراتٍ جديدة، كان لا بد أن يسعها الدينُ أيضا. وقد صار. وساعد الفقهاءَ تنوعُ القضايا بتنوع الناس والعادات والمناطق واللغات والأعراف، وتغير الأحوال والحاجات والأغراض.
وهنا تبرز تأثيراتُ قواعد الدين والأخلاق بشمول علم الفقه للعبادات والمعاملات جميعا، وانظر كيف ارتبط مبدأ العدالة بمبدأ الإحسان، واتصف القضاءُ، بالذات، وهو من أهم أمور الاقتضاء وتسيير المعاملات الملتصقة بشأن الناس الحياتي والمعاشي، بالرحمةِ والتيسير والنزاهة .. وإني أرى بعين ضميري وعقلي أن القضاءَ، إن لم يكن تيسيراً وتسهيلاً ورحيماً ونزيهاً لتحقيق العدل لما كانت الحاجة للقضاء من أصله.
وكذلك تعددت المذاهبُ، فالسنيةُ بمذاهب، والشيعيةُ بمذاهب، ثم انقسمت السنية إلى مذاهب أهل الحديث ومذاهب أهل الرأي، ومذاهب توسطت تلك وذاك. ثم تعدد العلماءُ والفقهاءُ من أتباع المذاهب وكثرت مؤلفاتهم وتصنيفاتهم كثرة سالت وفاضت.. وكان سيلُ خيرٍ، وفيضانُ نعمة، وبقيت كنوزا تحوي مفاخر فكرية تتوهج، ليس فقط بالعمق العلمي والجهد البحثي، بل بالذكاء والاستنباط، والنباهة الاستنتاجية.
وفي وقتٍ عزَّ فيه تقبل الآراء وعمَّ فيه التعصبُ للفكر الواحد، ووضع أشخاص للعلم وضعت دونهم الأسقف حتى يكون كل فكرٍ من تحتها، وجب أن نعود لمعلمنا الكبير التاريخ الديني الإسلامي لتظهر لنا شمسٌ من أحقاب التاريخ لا تنير أفكارنا وتعقم نفوسنا فقط، بل لتدلنا كيف كان المنهاج الصحيح للعالم المسلم، والذي يجب أن يستمر ويكون. وأكثر الشموس سطوعا هو الإمام مالك الذي هو مثـَلٌ للفقهاء.. وبعلمي الناقص أراه قدوة لكل فقيهٍ وعالم، ومن يرى من أصحاب العلم غير ذلك فلينبهني.
إنه ''مالك بن أنس الأصبحي'' وقد أسس ونشر مذهبه في القرن الثاني للهجرة وفي مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم، وفيها أقام وعاش ومات، ولم يخرج لحاضرة أخرى أبدا منها إلا حاجاً إلى مكة المكرّمة. إنه كما هو معروف مؤسسُ وموطـِّدُ مدرسةَ الحديثِ والتي هي امتداد لمدرسة الحجاز الشهيرة، وكما تعرفون جميعا وصل علمه وفضله وصيته إلى الذُرى، فطار عنه المثلُ الأشهر: ''لا يُفتى ومالكٌ بالمدينة''.
إن سِفره العظيم ''الموطأ'' ليس فقط مجرد كتاب، إنه مجهودٌ عقليٌ وبدنيٌ وروحيٌ وماديٌ وبحثيٌ بُني على علم غزير ومراجعة أعمق غزارة حتى أني أظن أنه في كل قرن من عشرات القرون التي تفصلنا عن زمنه لم يُغْفـَل هذا الكتابُ أبدا، فكان أشد الكتب العلمية الإسلامية حضورا، وأقواها حجة، وأكثرها مرجعية. فالشافعي العظيم إنما هو تلميذ لذلك السفر السامق، كان وما زال ذلك الكتاب منبعا لثقافة هذه الأمة.
وانتشر مذهب مالك بين أهل الحجاز، ثم بين أهل المغرب وتوسع جدا في الأندلس، أما السبب لوصوله للمغرب والأندلس والعهدة على ''ابن خلدون''، مع اختلاف آراء بعض كبار المستشرقين، إلا أني أميل منطقياً لرأي ابن خلدون الذي عزا هذه الظاهرة لضعف مصادر العلم الشرعي في المغرب والأندلس فحثّوا الرحلاتِ الطويلة، وحيث لم يكن العراقُ الزاهرُ في طريقهم، اقتصروا على نهل العلم من أهل المدينة المالكيين.. وهناك آراءٌ تعزوها للحج، وقد تصح.
وهل تصدق أن لمذهب الإمام مالك أكبر الأثر على أكبر وأعلى الفلاسفة قامة؟ منهم ابن رشد الكبير، ومنهم حجة الإسلام الغزالي، وأخذه ''بمبدأ الاستصلاح'' بوحي مباشر من أصل المالكية في المصالح المرسلة.
على أن الدرسَ هنا فيما يأتي..
عرض الخليفة العباسي ''أبو جعفر المنصور'' على الإمام مالك أن يدون مذهبه للخليفة كاملاً ليحمل الناس على علمه ونشره ليكون مذهباً وحيداً للأمة.. فرفض الإمامُ مالك وبشدّةٍ، وهو فخرٌ لا يطاوله فخرٌ، وتاريخٌ لا يطول عنه تاريخ. لقد تورع الإمام عن حمل الناس على تقليده والسير فقط على نهجه. ثم حاول معه بعد ذلك الرشيدُ بهيمانه.. غير أن الطودَ لا يتزحزح. كان متواضعاً يرى أن هناك مَن سيأتي أعلم منه.
وكان خائفا من الله، لذا كان شجاعاً أمام الخلفاء!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي