Author

جغرافيا الانفتاح

|
يطيب للمشتغلين بالشأن الاقتصادي أن يحولوا كل مظاهر الحياة إلى أرقام وبيانات ومؤشرات لتسهيل دراستها والسيطرة عليها. ويلغي علم الاقتصاد المنمق والمليء بالمصطلحات المعقدة مفاهيم كالوطنية والسيادة والإنسانية من قاموسه ويعتبرها من الموضات القديمة. الكلمة الأهم التي تحوم في رحابه هي المصلحة. لكن بالطبع لن تكون مصلحة الشعوب الفقيرة والضعيفة بل مصلحة الأقوياء في العالم. والاستعمار هو أكبر دليل على الطريقة التي عوملت بها الشعوب المستعمرة ونهبت ثرواتها لكن في عصر الاستعمار عن بعد، سوف تتغير تكتيكات وأسلحة المعارك. من قبل كان دخول البلاد يتم بالاحتلال المباشر أي كان يتطلب دخول الجيوش والدبابات وإزهاق أرواح الناس، للسيطرة على بقعة جغرافية وامتصاص خيراتها وتسخير ناسها في أعمال تعود للمستعمر. اليوم الغزو لا يزال متواصلا ومن البلاد نفسها لكن عبر خبراء واختصاصيين مهندمين ومهذبين. وإذا كانت كتب الجغرافيا تتكلم عن وطن بحدوده وعلاقاته مع الجوار، وما فيه من خيرات وثروات وعدد سكان وصناعات، فإن جغرافيا مصالح الشركات الكبيرة تهتم بكمية وكيفية الاستفادة من تلك الثروات. وبينما تغرس بلدان الشمال ما تيسر لها من أسلاك شائكة واشتراطات مهينة أمام شعوب البلدان النامية، وتمنعها من دخول أراضيها، نراها تستميت في نزع الجنسية والهوية الأصلية لأصحاب العقول المفكرة والاختراعات العبقرية والثروات المنهوبة وتمنحها الهوية الجديدة، بكل المزايا التفضيلية، وفي المقابل تفرض إزالة أي عقبات أو حواجز أمام مواطنيها وبضائعها وأموالها لكي تخرج وتدخل دون عقبات. وأما بند السكان فينظر إليهم على أنهم أفواه وجيوب أي أنهم نافعون فيما يستهلكون وبكم ينفقون. ويحلو لخبراء الاقتصاد أن يصنفوا البلدان إلى مجموعات تبعا لوجهة نظر الأقوى، سابقا كان يدرج مصطلح بلدان العالم الثالث للدلالة على التخلف والجهل، الذي يحيط بها بحيث يدعون أن مسوغ احتلالها هو لمساعدتها على إدارة مواردها بطريقة أكثر فعالية وتحسين مستويات معيشة أفرادها. لكن نغمة المعاصرة الاقتصادية تشدد على تقسيم البلدان بمنطق السوق: فهي أسواق متقدمة أو ناشئة أو نامية. كما تتجنب الحديث عن الموارد إلا فيما يخدم مصالح الشركات العالمية. وإذا لم تكن الثروات والموارد مفيدة لتلك البلدان، فيتم التغاضي عنها وكأنها غير موجودة. فعلى سبيل المثال بين كل السلع الزراعية العديدة التي تزخر بها الكرة الأرضية لماذا يتم التركيز على نحو 20 سلعة زراعية مثل السكر والشاي والقهوة والقمح وفول الصويا والذرة والكاكاو، والسبب أن الشركات الكبيرة حول العالم تمتلك مزارع ضخمة لها في بلدان عديدة ويهمها التحكم بأسعار تلك المزروعات حتى تحقق صناديقها الأرباح وتتحكم بغذاء الملايين حول العالم. وهذا ما يفسر كذلك أن تكون هذه السلع مدرجة في بورصات السلع. لأن حجم التداولات عليها كبير جدا ويحقق أرباحا هائلة.

اخر مقالات الكاتب

إنشرها