Author

يؤذيك أنْ..

|
.. يؤذيك أن تـُعِدَّ الدولُ طلائعها للتعامل مع عالم التقنيةِ الذكي، وبخططٍ متجددةٍ ومتطورة، كي ينتهي عصرُ السبورةِ والطباشير، وحفظ النصِّ الفلاني.. ونحن لأمرٍ ما تتعثرُ محاولاتـُنا. يؤذيك أن الذي "كان" يتخرج في الرابعةِ الابتدائي من 60 عاما، أو دراسة تقليدية، يفوق علماً وحِنكة خريجي الجامعات حالياً، فأحدُ أكثر العاملين التعليميين لم يدرس إلا إلى الرابعة الابتدائي ثم فتح فتوحاً، وكثيرٌ جداً من أدباء ومفكرين كبار كانت آخر عهودهم بالتعليم النظامي الكتاتيب ثم ملأوا سماءَ الفكر نجوما. واليوم يتخرج المتخرّجون يضعون أقداماً رخوةٍ على أرضٍ رخوة.. ماذا حصل؟ ربما لم نسأل لنعرف الجواب. من دأبـِنا أننا لا نسأل، ومتى سئلنا لا نُجيب، وإن أجبنا لا نتوخى طرق الإجابة الحقـّةِ، مشكلتُنا أن الأمورَ تدهمُنا، وأننا نفكر حينها، ولكن بطريقة من يمسك البوصلة الآنية ثم يسير على الاتجاه التخرّصي لأن لا معالمَ لطريق. ما خطتنا كأمة لنخرج أجيالا تتعامل مع العولمة التي صارت موجة كاسحة، فإمّا أن تكون رياضياً في امتطاء الموج أو تنبطح تحته غريقا؟! يؤذيك أننا لسنا فقط كأجهزة رسمية تتغافل التخطيط التنسيقي الشامل من أجل بناء جيلٍ عاملٍ وناهض ومتفاعلٍ بقوة مع العالم في كل مجال، بل حتى كجموع ناس. يخرج أيّ واحدٍ منا بنداءٍ تنظيري جدلي لا يبعد ولا يقرب ثم تشتعل الردودُ كقصف كثيفٍ من كل جهة على مشهد الأرض العقلية، ولا نتحدث بالقوة ذاتها عن الواقع، هذا الواقع الذي يأكلنا كلّ يوم، بل كل لحظةٍ معرفةً ومعاشاً، وكأننا فِرقٌ من الأطفال تجري وراء بالوناتٍ متطايرةٍ وعيونُها شاخصة لها فوق، ثم تتعثر في الأرض التي تجري عليها، لأنها لم تفكر في البداهةِ الواقعية وهي: الأرضُ التي تمشي عليها! نحن شغوفون بالترادّ في القصائد، والمقالات، والتنظير والتنظير المضاد، وعلى مواضيع نظريّةٍ جدليةٍ بحتة لا تضيف نقطة تغيير لرفع واقع الأمة. أريقت أطنانٌ من الحبر وشحنات عظمى من الكلمات.. وبعدين؟ لا شيء! فهل نحن "بيزنطة" من جديد؟! يؤذيكَ أن الدولَ التي صارت تعد أجيالـَها ليس فقط للمستقبل، بل للحاضر الآني، لا نقصد بها الدول التي تقدمت مثل سلطة مدينة نيويورك التي ستوزع أجهزة "آي باد" من نوع جديد في المدارس للقضاء على آخر ورقةٍ مكتوبةٍ، وإنما أتكلم عن دولٍ أشدّ فقرا، وكانت أشد تأخرا.. الهندُ التي كانت لا تذكر إلا والمجاعات أول ما ينفر من الذاكرة، تعمل ليكون هذا القرن قرن الهند. وبخطةٍ قامت بها ولايةٌ واحدة لإعداد العقلياتِ الطالعة الهندية للتعامل مع التقنية الذكية بها "حيدر آباد" المدينة التي كان المستعمرُ الإنجليزي لا يدخلها إلا نادراً، لأنها في عرفهم "مستنقع ذباب"، سحَبـَتْ البساطَ العمليَّ حرفياً من مهندسي أعظم وأشهر وأغنى وادٍ تقني في كل العالم: "وادي السليكون"، وسُرِّحَ المهندسون الأمريكان في الشوارع لأن الأعمال التقنية نُقلت بالكامل لخريجي معاهد "حيدر أباد" التقنية.. وترون أن بطاقاتِ الأحوال لمهندسي أمريكا لم تنفعهم في تنافسٍ عوِلـَميٍّ ضارٍ. طيب اترك الهندَ، ولنرَ الفلبين.. دشـّنـَتْ الحكومة الفلبينية أخيرا المشروعَ الأمل، وأطلقوا عليه الأسماء الأولى من اسمه (جي إف إس) وترجمتها:" المدارس الفلبينية العولمية" وهي مبادرة طموحة بدأت في التنفيذ الفعلي من أجل هدفٍ واضح: بناء التنافسية العالمية في إدارة التعليم للشباب. مشروع من الأمّةِ للأمّة، يعني تدخل فيه كل قطاعات الدولة من الهيئات الرسمية المختصة المباشرة، والمساندة، وغير المباشرة، والقطاع الخاص، والبلديات وحاكميات المقاطعات، وذلك بتوفير الأدوات والوسائل والآليات للمدرسين والطلاب وللمدارس لمواجهة التحدّي العوْلمي في ميادين تقنية المعلومات والاتصالات الذكية.. ماذا فعل الفلبينيون أيضاً؟ انظروا، هناك شركةٌ كبيرة للاتصالات اسمُها "جلوب" مثل "الاتصالات"، و"موبايلي" و"زين" عندنا، ووضعوها بصُلبِ الخطة الطموحة الكبرى كشريكٍ استراتيجي رئيس (فهناك شركاءٌ استراتيجيون فرعيون أيضا) عبر ذراعها الاجتماعية، ومهّدوا لها طرقَ المساعدة والتحفيز كي تقـْوَى عضلاتُ الذراع، ويتندر العاملون في هذا المشروع بالذات بتسميته " نحو ذراعٍ هِرَقليّة" نسبة إلى البطل الإغريقي الأسطوري الجبار. وطوّروا شيئا آخر، جميلٌ وفي منتهى الذكاء التطلعي، مع اتحادٍ أهلي اسمه "التحالف نحو تعليم أفضل" لتحقيق هدفٍ حيوي وهو: تلاميذٌ طول الحياة “Life-long students”، لتكون عملية متواصلة لا تنتهي تعليما، ولتحقيق شيءٍ يشابه ميكانيكية سباق تسليم العصا التتابعي.. وهم هنا يرون المستقبلَ من شرفة الحاضر! سيتخرج هؤلاء الفلبينيون وسيغزون العالم، فهم مهرةٌ في ذلك.. وليس كل العالم طبعا، فلن يمكنهم في المجالِ غزو دولةٍ مثل الهند، ولا كوريا، أو سنغافورة، ولا حتى الكيان الصهيوني.. كلهم مدّرعون بالترسانة ذاتها.. سؤال: ما هي بقية الدول التي سيغزونها؟! سؤالٌ، هذه المرة كأمّةٍ، علينا أن نجيب عنه... على الأقل!
إنشرها