Author

الأستاذ البليهي وتطوير التعليم .. المدخل الثقافي

|
من المتفق عليه أنه من الصعب إيجاد تعريف يحيط بالمعنى الشامل والكامل للثقافة, ولذلك أول ما يبتدئ في تعريف الثقافة أنها ذلك المجموع من القيم والرؤى, ومن ثم تتعدد التعاريف بتعدد مكونات هذا المجموع. وأشار الأستاذ البليهي في مقالته عن تطوير التعليم إلى أن التلقائية والولع الفطري بالمعرفة الذي يجب أن يكون هو المقياس في تقييم العملية التعليمية بحاجة إلى ثقافة تحوي من القيم والرؤى والقناعات ما يمكن التعليم من الحفاظ على هذه التلقائية عند الطالب, فالعملية التعليمية, وإن اجتهدنا في توفير كل متطلباتها ومقومات نجاحها من مبان مدرسية متكاملة ومدرسين أكفاء ومناهج حديثة وموارد خدمية متطورة, إلا أنها لا تكفي وحدها من غير أن نحيطها بثقافة تدفع بالإنسان إلى أن يتفاعل بشكل إيجابي مع هذه البيئة التعليمية المتكاملة. ليس التعليم وحده في حاجة إلى تطوير ومراجعة ثقافية, فالتقدم والتخلف هو في الأساس موضوع ثقافي قبل أن يكون شأنا علميا أو تكنولوجيا أو تطورا ماديا. والتطوير الإداري لا يمكن أن ينجح ما لم يصاحبه تطوير ثقافي وارتقاء للقيم الثقافية الإدارية التي تعزز المشاركة في اتخاذ القرار وغيرها من المسائل التي تنادي بها اليوم الإدارة الإنسانية. فكل ما تبتلى به الإدارة العربية, حتى الإسلامية اليوم من مشكلات وإخفاقات, نجد أن السبب الرئيس وراءها سبب ثقافي وليس تقنيا, فالتخطيط والشفافية والمحاسبة وتحمل المسؤولية كلها أساسيات في العمل الإداري, لكن هذه الأساسيات لا تجد لها أرضية ثقافية قوية وصلبة لتقف عليها. فالتخطيط في حاجة إلى ثقافة تؤمن بالمستقبل وتنشغل به وتجعل من الاستعداد له مسألة مهمة ومحورية في الحياة, فكيف لنا أن نخطط للمستقبل ورقابنا ملتفتة إلى الماضي؟ وكيف لنا أن ننشغل بالمستقبل ونحن نعتقد أن الماضي هو الأفضل وسيبقى هو الأفضل؟ وكيف نستعد للمستقبل وثقافتنا تقلل من دور الإنسان في صناعة هذا المستقبل؟ فالمستقبل في نظرنا أكثره غيب ومحاولة اختبار هذا الغيب وكشفه مسألة ـــ على الأقل ـــ غير مرغوبة أو محببة في ثقافة المسلم والعربي. نحن بثقافتنا لم نفهم الغيب على حقيقته, فالإنسان بالعلم والمعرفة يحق له أن يختبر هذا الغيب ليعرف حدوده والمساحة المسموح للإنسان الوصول إليها وما أكثر وأعظم هذا المسموح. وكيف لمجتمع ثقافته تحقر الدنيا وتدني من قيمتها وترى أنها ما سميت بهذا الاسم, الدنيا, إلا لدنو مكانتها, أن نطالبه بأن ينشغل بإدارتها وتنظيمها, فلا إدارة فاعلة مع ثقافة متأخرة وغير فاعلة. حتى الدين على عظمته وعلو مكانته يتأثر بالثقافة سلبا وإيجابا, فالمجتمع يمارس تدينه في إطار ثقافته, فالمجتمع الذي يعيش ثقافة التشدد والانغلاق لا يفهم من الدين إلا ما يعزز انغلاقه وتشدده, والثقافة التي لا تنشغل بالإنسان كمخلوق له حرمة وكرامة عند الله لا تساعد المجتمع على فهم ما يحويه الدين من قيم إنسانية, والثقافة التي ليس لها عمق فكري ومعرفي تنتج لنا تدينا شكليا وسطحيا ولا يهتم إلا بالمظاهر والأشكال والطقوس المجردة من المعاني, تدين يهتم بالمظاهر وليس بالمعاني, ويهتم بالأشكال وليس بالمضامين. فإن أردنا فعلا من التعليم أن يحفظ لنا حبنا وولعنا الفطري بالمعرفة فعلينا أن نحيط هذا التعليم بثقافة تحفظ لنا إنسانيتنا, فالتعليم بلا ثقافة إنسانية واضحة المعالم لا ننتظر منه أن يخرج لنا أناسا مبدعين ومنتجين وفاعلين في هذه الحياة. صحيح أن التعليم هو الذي يتكفل بصياغة عقل الإنسان وبناء الجانب المعرفي في شخصيته, لكن ما فائدة هذا العقل عندما نسجنه بثقافة تمنع عنه دخول النور وتفرض عليه من القيود ما يمنع عليه الحركة؟ لا بل إن هناك خطورة شديدة عندما نطلب التطوير والإصلاح في التعليم ولا نريد مثل هذا التطوير في الثقافة لأن المتعلم غير المثقف لا يحس بالقيمة الذاتية للمعرفة, وبالتالي لا يأخذ من المعرفة, وإن أتيحت له بالقدر والشكل المطلوبين, إلا بما يعود عليه من مصلحة مباشرة وملموسة، وغير ذلك فهو لا يهتم ولا ينشغل به, والإبداع والإنتاج الحقيقي عند الإنسان لا يتحقق في مثل هذه الطبقات الدنيا من الاهتمام والانشغال والتعلق بالمعرفة. لا نريد أن نطيل الحديث عما للثقافة من دور رئيس في تطوير التعليم, وكم نحن ممتنون لأستاذنا إبراهيم البليهي الذي أثار هذه النقطة وأبان لنا أن ثقافة المجتمع هي المدرسة الثانية للطالب, وبالتالي لا بد في إصلاح التعليم أن يكون له جانب ثقافي حتى تكتمل العملية التعليمية, وأن يكون للتعليم دور في إصلاح المجتمع من خلال إصلاح الفرد, فبالثقافة والمعرفة نستطيع أن نهيئ الأسباب وأن نوفر البيئة المناسبة لإنتاج الإنسان الصالح, وبالإنسان الصالح تبدأ الحضارة دورتها في حياة المجتمع. هناك كثير من المفردات الثقافية التي ينبغي تأكيدها وتعزيز حضورها في العملية التعليمية ومن هذه المفردات: 1 ـــ لا نريد من التعليم أن يخرج لنا أناسا مبرمجين ماديا وذهنيا وفكريا ونفسيا ليطلب منهم لاحقا استنساخ ما في المجتمع من عادات وقناعات ورؤى تراكمت منذ قرون, فالعقل المبرمج والشخصية المستنسخة من غيرها تنتج لنا حياة راكدة ومجتمعا ميتا وإنسانا غير فاعل. ولعل أهم عنصر في بناء الشخصية غير المبرمجة هو بناء الحس النقدي عند الإنسان. فالنقد له قيمة ثقافية مهمة في بناء الإنسان المتعلم, لكن ـــ مع الأسف ـــ ثقافتنا الجمعية تشوه النقد كقيمة ثقافية وأخلاقية, فالإنسان الناقد متهم دائما بأنه إنسان يتصيد الأخطاء وأن له نيات سيئة, وأنه يبحث عن إثارة الفتن والخلافات ويسعى إلى الحط من قيمة الناس والمنجزات. وبناء الحس النقدي عند الطالب يتطلب منا أن نجعل من السؤال محورا رئيسيا ومهما في العملية التعليمية. فالمدرس الذي يتضايق من السؤال والطالب الذي يخاف من السؤال كلاهما يشتركان في برمجة بعضهما, فالمدرس يبقى يكرر ما حفظه وينقل للطالب ما اكتسبه من قناعات من دون الوقوف عندها, والطالب يظل يستمع ويحفظ ليعيد إنتاج نفسه على شكل مدرسه وبالوضعية نفسها التي كان عليها من سبقه وإن كانت هذه الوضعية مؤسسة على جهل وأوهام. فإماتة السؤال عند الطالب هي في النهاية قتل للإبداع والتجديد وإماتة لما عند هذا الطالب من تعلق وولع فطري بالمعرفة. 2 ـــ التخلص من ثقافة الاستعباد, وهي مسألة مهمة في كل جوانب الحياة, لكنها أكثر أهمية في التعليم. هناك ـــ مع الأسف ـــ جوانب كثيرة في ثقافتنا تدفعنا وتحبب لنا ممارسة الاستعباد لغيرنا, فكما قال الجاحظ اجعلني سلطانا ولو على حمار أو حتى على حجارة, فالمهم أن تتاح لي الفرصة كي أتسلطن على غيري. وبهذه الثقافة صارت الأبوة عندنا سلطنة وسيطرة وأوامر وإكراها, وصارت الإدارة عندنا سلطنة وتحكما واستبدادا, حتى قوامة الرجل الدينية فهمناها على أنها رئاسة وتحكما واستفرادا بالرأي والعمل. فلا بد أن نخلص التعليم من هذه الثقافة السائدة, فالطالب لا بد أن يتعلم من دون أن يقدم في المقابل جزءا من حريته وكرامته الإنسانية, فالمعرفة ترتقي بكرامة الإنسان, والعلم يفتح للإنسان آفاقا أرحب لممارسة حريته المنضبطة في حدود إنسانيته, وعندما يحس الإنسان بأن هذه المعرفة تأخذه إلى غير ذلك, وعندما يشعر بأنه يتعلم في بيئة تنتقص من كرامته كإنسان فإنه من الطبيعي أن ينفر من هذه المعرفة ولا يجد في نفسه إقبالا عليها. فالمدرس الذي يعلم الطالب وهو يمتهن شخصيته، والمنهج الذي ينقل إليه المعرفة ليزداد شعورا بالحرية يخاطبه بلغة الأوامر والنواهي، هي كلها في النهاية تنتج عزوفا وضمورا شديدا في الإقبال على المعرفة. 3 ـــ ضرورة التخلص من الفهم المغلوط عند الطالب والمدرس بأن المعرفة تعطى ولا تطلب, فالطالب يذهب إلى المدرسة ليأخذ المعرفة لا يذهب هناك ليبحث عنها. فالطالب في الحالة الأولى يكون سلبيا لأنه ينتظر أن يعطى له الدرس وأن يشرح له المدرس ما هو المهم وما هو غير المهم لا أن يكتشف ذلك هو بنفسه ولو كان ذلك بمساعدة غير مباشرة من مدرسه. فالطالب يجب أن يعيش ثقافة مدرسية تجعل منه باحثا عن المعرفة وليس متلقيا لها فقط, وما على المدرسة إلا أن تهتم بإيجاد المثيرات التي تدفع بالطالب للبحث والتنقيب عن المعرفة. ختاما لا يبقى إلا أن نشكر أستاذنا القدير إبراهيم البليهي على إضاءته هذا الجانب المهم في تطوير التعليم, فنحن في حاجة فعلا إلى نقلة في التعليم, وإنجاز مثل هذه النقلة يستوجب منا أن نقترب من تلك الدوائر الرئيسة التي تتشكل العملية التعليمية في إطارها, فصياغة رؤية فلسفية وعميقة للتعليم هي التي فعلا تمهد لتطوير وإصلاح حقيقي للعملية التعليمية وغير ذلك تبقى محاولات وستكون لها ثمار, لكن سرعان ما تذبل هذه الثمار وتختفي لأنها تفتقد ما يبقيها ويضمن استمرارها.
إنشرها