Author

دولة جنوب السودان: التحديات وآفاق المستقبل

|
تذكر بعض الروايات عن أحد قيادات الحركة الشعبية لتحرير السودان، أن الحركة طلبت بعد التوقيع على اتفاقيات نيفاشا عام 2005 إسناد بعض الحقائب الوزارية السيادية مثل المالية أو الداخلية لأحد أعضائها، حيث إن ذلك مدعاة لتعزيز الوحدة وجعلها جاذبة للجنوبيين. بيد أن رد قيادة المؤتمر الوطني جاء بالحرف الواحد – حسب تلك الروايات - كما يلي: ''إننا نعلم أنكم ستختارون الانفصال مهما حدث، ولهذا لن نضيع وقتا أو جهدا في استرضائكم بهذه الوزارات الحيوية بالنسبة لنا''. ويبدو أن الإقرار بهذا الحق التعاقدي في اتفاقية نيفاشا قد جعل الطرفين في الشمال والجنوب يتقبلان مسألة الانفصال ويعتبرانها في حكم الأمر الواقع. ويلاحظ أن تغير قيادة الحركة بعد غياب جون قرنق قد دفع بالأمور لتسير في طريق الانفصال والاكتفاء بحكم الجنوب في سياق مستقل. ومن الأمور ذات الدلالة أن اتفاقية السلام الشامل ليست شاملة في حقيقة أمرها، فقد استبعدت القوى المناوئة للحركة الشعبية في جنوب السودان مثلما استبعدت قوى المعارضة السياسية والمهمشين في الشمال وانحصرت صفة الشمول الذي اتخذته عنوانا لها في إطار ثنائي بين الطرفين المتفاوضين. وعليه فقد ساد اعتقاد قوي بين الميليشيات الجنوبية المنشقة عن الحركة الشعبية بأنها ستتعرض لأعمال انتقامية بعد توقيع اتفاقية 2005. #2# بيد أن وفاة جون قرنق قد غيرت من طبيعة تلك المعادلة. فقد افتقد خليفته سيلفا كير تلك الحماسة الوحدوية الخاصة بشعار السودان الجديد واكتفى عوضا عن ذلك بتوجيه اهتماماته إلى توحيد الجنوب. ففي كانون الثاني (يناير) 2006 تم التوصل إلى اتفاق بين الحركة الشعبية والجماعات المنشقة والمناوئة لها. وإضافة إلى ذلك فقد حاول رئيس حكومة الجنوب أن يغير الصورة العامة لحركته بأنها تنظيم للدينكا من خلال ضم بعض قيادي الحركات الأخرى إلى هياكل حكومة الجنوب. وربما يكون هذا التوجه قد أسهم في عدم تفجير الجنوب حتى اليوم. وما نود الإشارة إليه في هذا السياق هو أن حكومة الجنوب بزعامة سيلفا كير قد ضعف اهتمامها باتفاق السلام الشامل ومؤسساته وما يتضمنه من عمل لتدعيم الوحدة الشاملة. إذ لم تعد مسألة تحرير ''المركز'' في الشمال هدفا استراتيجيا. لقد أعرب كثير من رموز المعارضة الشمالية عن خيبة أملهم في عملية سلام نيفاشا، ولكنهم رأوا في الوقت نفسه أن وجود جون قرنق في مؤسسة الرئاسة سيمثل تحديا كبيرا لسلطة المؤتمر الوطني. تجسد ذلك في الاستقبال الشعبي الحاشد للراحل جون قرنق لدى وصوله إلى الخرطوم في حزيران (يونيو) 2005. ولا شك أن تركيز سيلفا كير على الجنوب وعدم اهتمامه بدوره على المستوى القومي قد خيب آمال هؤلاء الذين رفعوا شعار السودان الجديد سواء في شماله أو جنوبه. وأيا كان الأمر فإن الرؤية الفاحصة لإنجاز حكومة الجنوب في ظل سياسة الحكم الذاتي وعلى مدى سنوات الفترة الانتقالية تظهر أن الحركة الشعبية لم تحقق إنجازا حقيقيا إلا في تعظيم مطالبها في مواجهة المؤتمر الوطني الحاكم، وهو ما أعطاها قدرة تفاوضية في الضغط على حكومة الرئيس عمر البشير من أجل الإسراع بتنفيذ بنود اتفاقية السلام. أما في أمور السياسة الداخلية الجنوبية فقد كان أداء حكومة الحركة الشعبية واهيا ومخيبا للآمال. المعضلة الأمنية في جنوب السودان: يبدو أن التساؤل المحوري الذي يترتب على القبول بمبدأ انفصال الجنوب يتمثل في المعضلة الأمنية، فهل يتأتى لحكومة الجنوب القيام بوظائفها الأمنية بما يوفر الأمن والاستقرار لمواطنيها ويدافع عن سلامة أراضيها الإقليمية؟! سؤال يطرح أكثر من علامة استفهام واحدة حول مستقبل السلام والاستقرار في بلاد السودان في مرحلة ما بعد 2011. أحسب أن المعضلة الأمنية في جنوب السودان ''المستقل'' ترتبط ارتباطا وثيقا بطبيعة وتاريخ الصراعات الداخلية التي شهدتها المنطقة من ناحية ومجمل ديناميات التفاعلات الإقليمية التي تشكل إقليم القرن الإفريقي بمعناه الجيواستراتيجي من ناحية أخرى. ولعل قضية النزاع الحدودي حول مثلث المي Elemi مع كينيا تعد مثالا واضحا في هذا السياق. ولا يخفى أن طبيعة العلاقة بين مركزي السلطة في كل من الخرطوم وجوبا بما تنطوي عليه من تعقيدات وتصورات ذهنية يغلب عليها طابع العداء والكراهية قد تعد في حد ذاتها أحد مصادر الصراع والتوتر بعد الانفصال. ومن المعلوم أن قدرة حكومة الجنوب على تحقيق التنمية الاقتصادية والاستثمار في قطاع البنية الأساسية بما يلبي حاجات وتطلعات شعب الجنوب يمثل أحد التحديات الكبرى لمرحلة ما بعد الاستفتاء، وهو أمر يحتاج إلى مساندة دولية. بيد أن احتياطات الموارد الطبيعية الهائلة التي تزخر بها أرض جنوب السودان تمثل أساسا رصينا للرخاء والتنمية الاقتصادية. على أن إدارة هذه الموارد بكفاءة وشفافية عالية تمثل تحديا بحد ذاتها. فقد تكرر خبرة جنوب السودان في هذا السياق ما أطلق عليه في فقه التنمية الإفريقية ''لعنة الموارد الطبيعية''، وذلك للدلالة على استخدام الثروة المعدنية والنفطية في تمويل ممارسات فاسدة وتفاعلات صراعية يموج بها الواقع الإفريقي المعاصر. وتشكل الصراعات القبلية والإثنية داخل الجنوب أحد التحديات الأمنية الكبرى. وربما تلجأ بعض الجماعات والأحزاب السياسية التي تم تهميشها في إطار اتفاق السلام الشامل إلى استغلال هذه الانقسامات وتسييسها لتحقيق مآربهم الخاصة، على أن الأمر يزداد خطورة في ظل وجود وتداول الأسلحة، إضافة إلى عدم استكمال عمليات نزع أسلحة الكثير من جماعات التمرد السابقة. ولا شك أن ذلك كله يمثل خطورة على الأمن والاستقرار الداخلي للمنطقة. ويشير بعض الدارسين إلى وجود مخاطر أمنية خارجية تهدد إقليم جنوب السودان في حالة استقلاله، ومن ذلك: جماعات العنف الدولية ومافيات غسيل الأموال والاتجار في المخدرات والبشر والتي ستستغل حالة ضعف أجهزة الدولة الوليدة للقيام بعملياتها غير القانونية. وعلى صعيد آخر، فإن خبرة الصراع الطويلة في جنوب السودان، وانتشار الأسلحة بين أيدي جماعات التمرد المتعددة، فضلا عن نزوح وتشرد كثير من سكان الجنوب أفضت إلى اجتثاث هياكل الحكم وتسوية المنازعات التقليدية. فجنوب السودان، شأنه شأن باقي المجتمعات الإفريقية، شهد تقاليد راسخة لتسوية النزاعات المحلية. وتظهر دراسات ميدانية العديد من الأمثلة الواقعية التي قام من خلالها كبار السن والزعماء التقليديون في المجتمعات الرعوية على الحدود بين شمال السودان وجنوبه للوصول إلى حل تفاوضي يضمن حركة القبائل الشمالية في مناطق الرعي الجنوبية. ففي عام 1993 حينما نشب نزاع بين الدينكا والنوير تدخل حكماء الطرفين للوصول إلى تسوية سلمية. ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، حيث إن اتفاقات عديدة تم التوصل إليها بجهد مشترك بين القادة العسكريين والزعماء التقليديين لتسوية النزاعات بين المجتمعات الرعوية في المناطق الحدودية بين السودان وكل من كينيا وأوغندا. وليس بخاف أن هذه الآليات التقليدية قد أضحت أثرا بعد عين، حيث تطاول على أدوارها قادة التمرد وصغار القادة العسكريين، وإن كانوا هم في الغالب الأعم أبناء لزعماء تقليديين في مناطقهم. ويمثل نزع سلاح المدنيين في الجنوب أحد أبرز التحديات الكبرى التي تواجه حكومة الجنوب. إذ تشير أحداث العنف الدامية التي تم توثيقها من قبل الأمم المتحدة خلال عام 2009 إلى أن عدد القتلى جراء أعمال العنف القبلي والطائفي في جنوب السودان يفوق ما حدث في دارفور خلال الفترة نفسها. وربما يحاجج مسؤولو جنوب السودان بأن ذلك راجع إلى سببين بالأساس، أولهما التدخلات المباشرة وغير المباشرة لحكومة الخرطوم، والثاني يعزا إلى سهولة انتشار الأسلحة الصغيرة في الجنوب. على أن القراءة الصحيحة لأوضاع الجنوب في المرحلة الانتقالية تعكس ضعفا في الثقة بين المواطنين وحكومة الحركة الشعبية ومدى قدرتها على حماية المجتمعات الجنوبية منزوعة السلاح. وقد أعلن سيلفا كير أن حكومته الإقليمية ستولي مسألة نزع سلاح المدنيين أولوية كبرى، وأنها ستستخدم القوة إن دعت الضرورة إلى ذلك. وتشير بعض التقارير إلى أن جهود حكومة جنوب السودان لنزع السلاح تعبر عن انحياز واضح وأن بعض الأفراد المؤثرين داخل الحكومة لديهم ميليشيات خاصة بهم. التدافع الدولي والإقليمي على جنوب السودان من المعلوم أنَّ إقليمَ جنوب السودان يُشكِّل من الناحية الجغرافية منطقة حبيسة ليس لها منافذ بحرية، ومِنْ ثَمَّ فإنَّه يعتمد في الولوج إلى العالم الخارجي على ميناء بورسودان، وعليه لا يصبح أمام الجنوبيِّين من خيار في حالة العداء أو القطيعة مع إخوانهم في الشمال سوى التوجُّه جنوبا نحو ميناء مومباسا في كينيا، وهنا تكمُن أهمية الحديث عن شراكة استراتيجية بين كينيا وجنوب السودان ''المستقل''. وأحسب أن ثَمَّة عواملَ أخرى نفسية وواقعية، تَجعل من توجُّه جنوب السودان صوب جارته كينيا أمرا لا مراءَ فيه، فقد حافظت كينيا طيلةَ الحرب الأهليَّة في جنوب السودان على علاقة قوية ومتوازنة إلى حدٍّ ما، مع أطراف الصِّراع السوداني، وهو الأمر الذي جعلها في نهاية المطاف وسيطا مقبولا في عملية التسوية السلمية لهذا الصراع، ولا أدل على ذلك من أنَّ اتفاقَ السلام الشامل الذي أنهى الحرب الأهلية في جنوب السودان عام 2005 قد تَم التفاوض عليه وتوقيعه في الأراضي الكينية. ويبدو أن هوى النخبة السياسية والعسكرية في جنوب السودان يرتَبِطُ بمنطقة شرق إفريقيا، وتحديدا كينيا التي احتضنت معظمَ قادة الحركة الشعبية لتحرير السودان، ولا يزال هؤلاء يحتفظون بمنازل لهم هناك، كما يُرسلون أبناءَهم للتعلُّم في المدارس والمعاهد الكينية، وتكتمل معالِمُ تلك الصورة إذا ما علمنا أنَّ نَحو 100 ألف أو يزيد من اللاَّجئين السودانيِّين الذين شردتهم الحربُ الأهلية في الجنوب قد وجدوا لدى جارتهم كينيا الملجأَ والملاذَ الآمن. وعلى أيَّةِ حال، فإنَّ استقلال جنوب السودان محفوف بالمخاطر على ضوء الانقسامات والصراعات العرقيَّة، التي يَموج بها المشهد السياسي في الجنوب، وانتشار الميليشيات المسلحة وعصابات سرقة الماشية، إضافة إلى نقاط التَّمَاس القلقة بين الشمال والجنوب السوداني، والتي لن تحسم أبدا مثل منطقة أبيي، أضف إلى ذلك قضايا المواطنة والجنسية الخاصَّة بأوضاع الجنوبيِّين في الشمال، وكذلك تقسيم ديون وأصول الدولة السودانية، كلُّ ذلك يدفع إلى القول بإمكانية تفجُّر المنطقة ككل بعد انفصال الجنوب، وإعلان دولته المستقلة، وما لم يكن هناك دعم أمريكي وغربي صريح لدولة الجنوب، فإنَّها لن تكون قابلة للاستمرار. ويبدو من الواضح أن جنوب السودان المستقل يدخل ضمن عمليات إعادة الفك والتركيب الجيواستراتيجي التي تتعرض لها منطقة شرق إفريقيا في مرحلة ما بعد 11 أيلول (سبتمبر)، حيث تشمل نظما ذات توجهات علمانية غير عروبية وموالية للغرب. وقد يتم التفكير في إقامة تحالف كونفيدرالي يضم جنوب السودان وأوغندا وإثيوبيا، وهو ما يشكل تهديدا خطيرا لأمن مصر المائي وفي الوقت نفسه تدعيم تحالفات هذه الدول الاستراتيجية بإسرائيل. كما أن دول الأطراف الجنوبية في النظام الإقليمي العربي وهي جيبوتي والصومال تدخل في إطار هذا التعريف. على أن القيادة تظل غير عربية وغير إسلامية، حيث تعطى لإثيوبيا التي ينظر إليها دوما على أنها جزيرة مسيحية وسط بحر إسلامي في المنطقة. وإذا أخذنا في الاعتبار أن الدول العربية في الشمال الإفريقي هي جزء من مشروع الشرق الأوسط الكبير وفقا للرؤية الأمريكية لاتضحت لنا أبعاد عملية إعادة صياغة المنطقة أمريكيا وغربيا.
إنشرها