Author

مشكلة جنوب السودان.. الماضي ومآلات المستقبل

|
تعد مشكلة جنوب السودان من أخطر وأكثر المشكلات الإقليمية تعقيداً في القارة الإفريقية والعالم العربي، حيث تفجرت عام 1955 قبل استقلال السودان 1956 وتسببت في العديد من الأزمات السياسية والاقتصادية التي يعانيها السودان حتى اليوم، فالحرب الأهلية أدت إلى عدم استقرار نظم الحكم، وزادت من حدة التوتر الاجتماعي، وبفعلها انقسمت القوى السياسية، ما أثر سلباً في سياسة الدولة الداخلية والخارجية، وكذلك فإن مشكلة جنوب السودان قد تأسست على مقولة خاطئة، وهي أن السودان ينقسم إلى جزأين الشمال العربي (المسلم) والجنوب الإفريقي الزنجي (المسيحي)، وترتب عليها رسم صورة غير حقيقية وغير صادقة عن انقسام السودان، وتم تقسيم السودان ثقافياً ولغوياً وحضارياً بناء على مدلولات تلك المقولة الخاطئة. ومن هنا نجد أن مشكلة جنوب السودان هي في المقام الأول مشكلة إفريقية إسلامية في بلد يقع في منطقة احتكاك بين إفريقيا العربية وإفريقيا الزنجية، كما أن جنوب السودان يمثل عمقاً كبيراً وأصيلاً لامتداد الحضارة الإسلامية إلى ربوع هذه المناطق منذ زمن طويل، وبالتالي فإن أي محاولة لفصل جنوب السودان عن شماله تعد مغامرة كبرى على منطقة حيوية ومهمة لكل من السودان وكل القرن الإفريقي. كذلك نجد أن مشكلة جنوب السودان قد هددت فكرة الوحدة الإفريقية التي قامت على أساسها منظمة الوحدة الإفريقية نظراً لتعمد الأجنحة المتطرفة من الساسة الجنوبيين تصوير الموقف في الجنوب على أنه صراع بين الغرب والإفريقيين أو بين القومية العربية والقومية الإفريقية ومحاولة إلصاق الطابع الاستعماري والرجعي بالعرب الشماليين. ومما يدل على صعوبة وتعقد مشكلة السودان مع مرور الوقت هو مرور ستة نظم حكم على السودان، وكلٌّ منها حاول جاهداً تسوية هذه المشكلة، ولكنها فشلت لأنها كانت تسعى بالأساس إلى تحقيق مصالحها الشخصية، وكان هناك صراع دائم على السلطة، كذلك كان هناك كثير من المحاولات من دول عربية وإفريقية مجاورة، وكذلك منظمات دولية ودول أوروبية لحل هذه المشكلة، وهذا يدل على صعوبة حل مشكلة الجنوب؛ لأنها تمثل أزمة حكم وأزمة هوية وأزمة ثقة أيضاً بين الشمال والجنوب. فكيف بدأت مشكلة جنوب السودان ومتى؟ ومن الذي ساعد على تعقيدها وتأجيج نيرانها، وكيف وصلت إلى حد التنافر والحقد وحتى القتال بين أبناء الشمال والجنوب؟ ولماذا فشلت كل الحكومات والأنظمة السودانية السابقة في حلها؟ السودان منذ تكوينه وتأسيس أقاليمه يحمل في دواخله عناصر متضادة وقوى متصارعة؛ كونه يذخر بالتنوع والتعدد، فهو متعدد الأعراف واللغات والثقافات والأديان، علماً بأن الدين الإسلامي يعتنقه الغالبية العظمى من سكانه، كما أن أقاليمه الإدارية وبحدوده الجغرافية المعروفة تختلف بيئاتها الطبيعية وتعدد مناخاتها وتتنوع مواردها الإحيائية والإيكولوجية، فتوجد فيها المناخات الصحراوية ومناخات السافانا والمناخات الاستوائية، وكذلك تنوع مواردها المائية والطبيعية والمعدنية. وليس بالضرورة أن يكون هذا التباين ذو اللونية مصدر شقاق وخلاف، بل من الممكن أن يكون مصدر قوة وإثراء متى ما تكاملت وائتلفت عناصره، غير أن الطريقة التي تعامل بها السكان مع بعض جعلت من هذه اللونية الزاهية مصدراً للتنازع والصراع، خاصة بعد أن أجج المستعمر نيرانها بإشاعة مفاهيم خاطئة عن ثقافة أهل الشمال وبتصوير المواطن الشمالي على أنه مستغل لأخيه الجنوبي: هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، عمد المستعمر على وضع حاجز بين الشمال والجنوب من خلال سياسة الأراضي المقفولة التي صدرت في قانون المناطق المقفولة عام 1932. وقد كان من مضار هذا القانون عزل الجنوب حتى لا يتصل بالشمال، وذلك لأن المستعمر كان مدركاً لقوة الحضارة العربية الإسلامية التي اكتسبها أهل الشمال من خلال المعايشة والمصاهرة مع إخوانهم ذوي الأصول العربية، فقد كان إصرار المستعمر على محاربة الثقافة العربية الإسلامية ومنع استخدام اللغة العربية والأسماء العربية ومنع دخول العرب والمسلمين إلى الأقاليم الجنوبية خوفاً من وقوع جنوب السودان تحت تأثير الحضارة العربية والإسلامية، وبالتالي اجتياحها للدول الإفريقية جنوب الصحراء ومنعاً لإقامة الجسور والروابط الثقافية التي ستمتد من شمال السودان. كما عمد المستعمر إلى إظهار التباين والفوارق الاقتصادية بين الشمال والجنوب، حيث أبقى على الأقاليم الجنوبية متخلفة عن الأقاليم الشمالية اقتصاديا، فلم يتم استغلال الموارد الطبيعية والبشرية في الجنوب حتى صار المواطن الشمالي له الحظوة والغلبة في وظائف الخدمة المدنية والعسكرية، وسعى المستعمر أيضاً إلى تأجيج الصراع من خلال محاربته الإسلام ومعركته الشرسة التي أدارها بكل آلياته لإظهار الجنوب منطقة ثقافة مسيحية، وإبعاد التأثير الإسلامي العربي بحجة أن هذا التأثير سيسلب جنوب السودان هويته الإفريقية، علماً بأن عدداً كبيرا من الدول الإفريقية ذات الريادة في المحيط الإفريقي هي ذات ثقافة إسلامية أو عربية إسلامية. وخلافاً لذلك، فخصائص السودان وما يتمتع به من نعم كأكبر دولة إفريقية تمتلك مساحة زراعية شاسعة تتخللها شبكة من الأنهار والوديان، فقد جعله ذلك عرضة للأعداء الطامعين الذين راحوا يشعلون نيران الصراعات المحلية والإقليمية بتشجيع فئة على فئة، وتفخيم ظلامات الأقاليم المتخلفة عن ركب التنمية رغم ضآلتها، ولم يكن ذلك قطعا،ً كما يشير المؤلف بمعزل عن أبناء السودان جنوبيين وشماليين؛ لأنهم لم يتداركوا الأمور في بدايتها، ولم يسارعوا ألى نزع فتيل الحرب، ولم يعطوا الحوار فرصته، بل عمدوا إلى استخدام القوة العسكرية وإثارة النعرات القبلية والاستنفار بالقوى الأجنبية كسبيل لحسم الخلاف وكسب المعارك السياسية، ومن ثم دخل السودان في حروب أهلية متنوعة، كان وقودها أبناءه، وظلت مشتعلة ومستمرة منذ الاستقلال، حيث بدأ الصراع الشمالي الجنوبي يتفجر مباشرة بعد رحيل القوات الأجنبية عام 1955 باشتعال الشرارة الأولى في المديرية الاستوائية، حينما تمردت الفرقة الاستوائية بسبب أخبار مكذوبة كجزء من التحريض الأجنبي ومخططاته. وضربت البلاد حالة من التوتر والاضطراب، وهي في بداية تأسيسها، وأصبح هذا العمل هو النواة التي بذرها الأعداء لضرب الوحدة الوطنية في مهدها وبذر بذور الفرقة والتشتت. ولم يشهد الجنوب سلماً إلاّ في سنوات معدودة أعقبت الاتفاق الذي تم بين الحكومة السودانية وحركة تحرير جنوب السودان "الجناح السياسي للأنيانيا" في شباط (فبراير) 1972، في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، الذي عرف فيما بعد باتفاق أديس أبابا تحت رعاية ووساطة الإمبراطور هيلاسلاسي، وقضى بمنح الجنوب حكماً إقليمياً ذاتياً في إطار السودان الموحد، واستمر العمل بالاتفاق لمدة عشر سنوات، تم خلالها إنجاز بعض مشروعات التنمية، وتمتع الجنوب فيها بالسلم تماماً. ولم يستثمر النظام المايوي فرص السلام والاستقرار التي أتيحت له، فعمد إلى خرق الاتفاق في وقت تضاءل فيه سنده الجماهيري، وبعد خرق الاتفاق تفاقمت الأوضاع بين الشمال والجنوب، وذلك لأن الأحزاب وبعد مصالحة 1977 عملت على توسيع الشقة بين الرئيس الأسبق جعفر نميري والقيادات الجنوبية ثم بين الجنوبيين أنفسهم باعتبار أنهم أطالوا عمر مايو، وهكذا فقد النميري الجنوبيين بخرق الاتفاقية، ولم يكسب أهل الأحزاب القوى الجنوبية، وكان يمكن تدارك الأمور وتجنيب السودان ويلات الحروب، وتجنب الجنوبيين مآسي النزوح لو أن الحركة الشعبية في الوقت ذاته تجاوبت مع صيحات السلام التي أطلقتها حكومة الانتفاضة، وكانت فيها مخلصة وراغبة بسندها الجماهيري العريض لحل المشكل السوداني، وتعد هذه الفترة إحدى المحطات التاريخية التي أضاعها أبناء السودان، وكانت فرصة لا تعوض للسلام والنهوض بالسودان إلى جانب الفرص التي سبقتها، وهي فرصة مؤتمر المائدة المستديرة إبان انتفاضة تشرين الأول (أكتوبر) 1964، التي كانت اتفاقية أديس أبابا مبنية على أطروحاتها. وهكذا ظلت القيادات السياسية في السودان تضيع فرص السلام فرصة تلو الأخرى، وظل أعداء السودان ينشطون، والطامعون يؤملون في النيل من السودان، واستمر القتال بين الشمال والجنوب على حساب بناء البلاد وتنميتها وتقدمها، فلماذا كل ذلك.. ولأجل منْ.. وما رؤية الجنوبيين لأسباب استمرار هذا القتال المدمر؟ بعد استقلال السودان لم تنجح الحركة السياسية السودانية في اقتلاع تلك الحواجز والسدود التي غرسها الاستعمار في جنوب السودان، وظل الإرث الاستعماري مستعصياً على السودانيين دون تغيير أو تحويل حتى تطاول الزمن وتضخم الركام وأصبحت معدات وآليات التنظيف والكنس بعيدة المنال. كذلك عجزت الأحزاب والفعاليات السياسية التي تعاقبت على حكم السودان عن معالجة أوضاع البلاد، وتركت قضية الجنوب دون حل ناجع، وأن قصور التنظيمات السياسية قد امتد ليشمل الفشل في معالجة مشكلات السودان الرئيسة، خاصة قضايا التنمية وبسط الحريات وتحقيق العدالة الاجتماعية، ولم تحزم هذه التنظيمات أمر السودان وتسير وفق برنامج وطني، بل تركت الحبل على الغارب، ووجد الأعداء وأصحاب المخططات الأجنبية الفرصة سانحة لتفكيك أوصال البلاد وتوجيه مسارها، وهناك من لجأ إلى الأجنبي للتدخل في حل قضايا السودان والتآمر معه، الأمر الذي أصبح يشكل تهديداً مستمراً لوحدة الوطن وأمته واستقراره. إلى أن جاءت حكومة الإنقاذ التي نجحت في إيقاف الحرب الأهلية، وذلك من خلال توقيع اتفاق السلام الشامل 2005 الذي أعطى للجنوب الحق في تقرير مصيره. في الختام، يمكن القول إنه من خلال استقراء حركة التاريخ يتضح لنا أن العوامل التي خلقت مشكلة الجنوب وأسهمت في تفاقمها، ومن الممكن أن تؤدي إلى انفصاله، هذه العوامل ما زالت تعمل محلها، بل وتزداد وتيرتها، ولا يحمل المستقبل القريب أي بشائر بانحسارها أو ضعفها، ومن هذا يتضح أن مستقبل جنوب السودان مصيره إلى الانفصال. ونلاحظ أن الذي أدى إلى ظهور مطامع الجنوب في الثروة الكاملة وتغير مطالبهم من اقتسام الثروة والسلطة إلى المطالبة بحق تقرير المصير كخطوة نحو الانفصال، هو ظهور النفط وتركز معظم حقوله في الجنوب، وبدء إنتاج النفط بشكل تجاري وحصول السودان على عائدات منه التي أصبحت تمثل أساس الدخل القومي، ما أدى إلى إنهاء الوحدة والرغبة في الانفصال.
إنشرها