Author

ما الذي يفضي بمشاريعنا إلى الإخفاق رغم صوغها وفقا لأحكام العقل؟

|
برحيل عبد العزيز الدوري وثلة من المفكرين العرب أمثال نصر حامد أبوزيد ومحمد عابد الجابري، يعود السؤال عن الكيفيات التي رأى بها المثقفون العرب أسباب النهضة والتقدم، فالرجل كان من جيل قضى وقتا طويلا في السؤال عن شروط النهضة. وقد تمسك الدوري بالوعي بالهوية العربية، وظل ممسكا بخيط الأمل بالتغيير، برغم انسداد الآفاق الراهنة، وهو في سيرته وتجربته ووعيه مماثل لتجارب مماثلة من اللامعين العرب في تاريخ وحاضر هذه الأمة، إذ يمكن وصله بعبد الرحمن الكواكبي وساطع الحصري وزكي نجيب الأرسوزي وقسطنطين زريق ومحمد عزة دروزه وآخرين، وهؤلاء جميعا بحثوا عن واجب الشرف لهذه الأمة، برغم ما كانوا قد عاشوه من أجواء استبداد وضعف في بناء المجتمع العربي، إلا أنهم كانوا قادرين على التمسك بالأمل، وفي الانحياز إلى مجتمعاتهم، والدعوة إلى إحياء فكرة الانتماء للأمة، وبناء المؤسسات، وتطوير التعليم. في تعقيب للدوري عام 2002 على دراسة للدكتور علي محافظة حول شروط النهضة العربية كان قد قدمها في منتدى عبد الحميد شومان، قال "نؤكد إعادة النظر في نظام التعليم وفي منطلقاته وفلسفته.. ولا أمل لنا في الإبداع إذا لم نهيئ له الإمكانيات والنفقات.. وإن حرية الإرادة تعني توافر الحريات العامة"، وتساءل رحمه الله بالقول: "ألا نزال نناقش من أين نبدأ من الوحدة أم من غيرها؟ ألا نزال نناقش شكل الوحدة والاتحاد؟ وهل الديمقراطية الطريق إليها الدولة القاعدة أو الحركة الشعبية؟ وقبل هذا ما موقع الدولة القطرية؟ ألا نزال نناقش شرعية الدولة وعدمها؟ وبالقدر الذي رأى فيه الدوري الماضي مختبرا لتجربة الأمة، إلا أنه كان منفتحا ومطلا على الحاضر، لقد كان موقنا بأن الحل لا يأتي إلا بمواطنة ناجزة، بعيدا عن ثقافة المَنِّ والأعطيات، مبديا اهتماما واضحا بحركة المجتمعات الحية في الوصول إلى غاياتها التقدمية، فهو يقول مؤكدا ذلك: ".. إننا نعرف دور الشعوب في النهضات، ولكن هذا يوجب تحري السبل التي تمكن شعوبنا من دور فاعل، دون الاكتفاء بالهبات العفوية بين الحين والآخر، وهنا تضطلع فكرة تكوين المؤسسات بدور مهم.. ولقد آن لنا أن نعيد النظر في فكرنا، وأن نقيم ممارستنا الماضية لنجد الطريق..؟". #2# بَحْثُ الدوري عن الحاضر البهي كان جزءا من مسار المثقفين العرب، إذ بحث فهمي جدعان في كتابه "الطريق إلى المستقبل عن قوى الأفكار"، الصادر1996، عن دور للمثقف الحقيقي الذي يصنع الفعل الثقافي ويعاين مجتمعه، وينحاز له، ويتساءل: ما الذي يفضي بمشاريعنا إلى الإخفاق مع أننا نصوغها وفقا لأحكام العقل؟ ما الذي يجعلنا نضع القناع ونمارس الدور ونعظ بالفضيلة والصلاح، وتناضل ألسنتنا من أجل الحرية والعقلانية، ثم نلقي بذلك كله عند أول قادم يلوح لنا بخيرات من نوع آخر؟ (الطريق للمستقبل: ص59). تبدو مرارة البحث عن تبدلات المثقفين ـــ خصوصا الأيديولوجيين ـــ وتحولاتهم لا بل خيانتهم أكثر وضوحا حين يقول جدعان: "أذهب إلى حدود الزعم أنه لا جدوى من المثقفين، وأن علينا أن نصنع بهم ما أرد أفلاطون أن يصنع بالشعراء". (ص82). ويرى أن المثقف المعول عليه اليوم ليس الأيديولوجي ولا السياسي وليس الأكاديمي الذي برأيه من جماعة: "يغرقون في شبر من الماء حال مغادرتهم دوائرهم الأكاديمية". (ص101). بعد نقد المثقفين، يقف جدعان عند النوازل الكبرى الواقعة على الثقافة العربية المعاصرة، ويحددها بـ: 1- الانتصار الساحق للحضارة الغربية. 2- تفجر قوى الغريزة العربية. 3- اضمحلال الجسم العربي وتآكل بناه الذاتية. 4- الدخول في حقبة السلام العربي الإسرائيلي. تخرج معاينة النوازل عند جدعان نحو تحديد لمعنى التراث، ثم الحداثة وما خص العرب أنفسهم بها من تعريف، ويخلص إلى أن الحداثة ولدت فعلا في لحظتين متتاليتين لم تؤت الأولى منهما ثمرها على الفور، وإنما انتظرت قدوم اللحظة الثانية. ويقصد باللحظة الأولى تلك التي أطلق رصاصتها ابن خلدون، الذي أدرك ـــ بحسب جدعان ـــ وعي الأفول والانهيار واستوعب تراثا غزيرا، ثم تجاوزه للتراث التاريخي باكتشافه علم العمران. (ص141) أما اللحظة الثانية فهي التي بدأت في القرن الـ19، التي أعلنت عنها صرخة الشيخ حسن العطار غداة التقائه علماء الحملة الفرنسية واطلاعه على مبتدعاتهم الجديدة، ويومها قال: "إن بلادنا لا بد أن تغير أحوالها ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها". (الطريق إلى المستقبل: ص143). في مساحات البحث عن طريق المستقبل، تحدث جدعان عن روح التقابل والامتحان, وأثرها في دولة الحاكمية، وقرر أن المناطق الدقيقة في الشريعة هي أكثر المنابع صعوبة، ومنها: علاقة الدين بالدولة، وموقف الدولة من الدين، ويرى أن تقاطع المناطق الدقيقة هو الذي يجعل أهل الدين ينظرون إلى الدولة بتحدٍ وعداء. (ص: 263) دعا جدعان إلى اجتهاد التيسير لا التياسر، ويرى أن النوع الأول يمكن أن يمكن من التقاء الدين بالدولة، ويقول: لو أن الدين خرج أو أُخرج من حالة الأزمة واسترد حالة اليسر والرحمة، ولو أن الدولة بدلت سحنتها، تأمر بالحرية والعدالة والديمقراطية، لأصبح الواقع أكثر قبولا"، ثم يرى أن ثمة مسائل أكثر شخوصا اليوم أمام الإسلام هي: "حقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية". أما كمال عبد اللطيف في كتابه "أسئلة النهضة، التاريخ، الحداثة، التواصل" بعيدا عن أفكار جدعان التي جعلت حركة النهضة والتقدم العربي ذات منزع غربي، على خلاف عبد العزيز الدوري الذي ظل ممسكا بأن ما حدث في تاريخ الأمة من نهضة وتقدم هو نتيجة لحركة ثقافية في تاريخ الأمة، كانت تغيب وتحضر بحجم وفعل التحديات التي كانت تواجهها، إذ يمضي كمال عبد اللطيف في كتابه المشار إليه (ص 152)، إلى تأكيد أثر الغرب في النهضة العربية، فهو وإنْ اعترف بحركة سياسية عربية تبلورت في العالم الإسلامي في القرن الـ19 نتيجة تطور داخلي، إلا أنه يرى أن الحضور الغربي الوافد هو الذي وقف وراء الحركة التي حصلت في تلك الحقبة. وهو بذلك لا يخرج عن آراء جدعان وحوراني اللذين يعدان صحوة العرب نتيجة منطقية للقاء مع الغرب المتمدن، وهي نتيجة تتكرر لدى الكثير ممن درسوا حقبة النهضة العربية، وهي نظرة تحتاج اليوم إلى مراجعة لما أتت به من مسلمات وترسيمات معرفية. وهذه النظرة تكشف عن نتائج مختلفة عن تلك التعميمات التي أطلقت، أو التي عالجت أمر التحديث والنهضة بمعزل عن التجربتين التركية والإيرانية أو البحث عن حقبة ما قبل حملة نابليون على مصر والشام. تقدم الأدبيات الدارسة لموضوع الإصلاح العربي والإسلامي ومعانيه في حقبة النهضة الذي كان منشودا آنذاك، خلاصة مفادها بأنه كان يشف عن غايات عديدة، فهو دعوة إلى تغيير أو إصلاح لنظام دولة سلطانية قائمة، ويمكن أن يكون تغييراً في لباس ثورة، أو يكون إصلاحاً مقتبساً من محاكاته لنموذج محدد وهو الغرب. ويبدو أن هناك مستويين للإصلاح في تاريخنا الحديث، تتابعا ولم يتزامنا، المستوى الأول مستوى تقليد العالم الغربي والمجتمعات الغربية، والثاني جاء بعد هذه المرحلة، وهو مستوى إعادة التفكير في هويتنا مسلمين وعرباً وحضارة مشاركة في الفعل الإنساني، وهو ما حاوله مالك بن نبي فيما بعد. عربيا وتركيا وإيرانيا شَكَّل مطلب التحديث واللامركزية والحرية لُبَّ الجهد الإصلاحي، كما ظهر أن رفض الاستبداد انبرى من منطلقات دينية ظلت مستمرة في مشروع النهضة من بداية القرن الـ19 حتى اليوم، وهذا ما راح غالي شكري يبحث عنه في كتابه "دكتاتورية التخلف"، أو محمد عابد الجابري في بحوثه المختلفة حول العقد السياسي العربي. قبل ستة قرون كان سؤال ابن خلدون سؤالا عن بناء الأمم لنفسها، وهذا السؤال قاده إلى دراسة تحديد الأزمنة الحديثة وبداياتها به، وخاض فيها وتساءل عن الوعي الذي أدخلنا الأزمنة الحديثة؟ صحيح أن اتصالا جرى بين علماء مصر وعلوم فرنسا بعد حملة نابليون، وآنذاك أطلق الشيخ حسن العطار مقولته "إن بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها وتتمجد فيها المعارف ما ليس فيها". إلا أن المعارف لا تنمو إلا في ظل وعاء سياسي محكم وهو الدولة الحديثة، وهذا ما كان ممكنا مع حاكم مصر الأمي "محمد علي باشا"، إذ دخلت البلاد العربية زمنا جديدا بكل ما في الكلمة من معنى الجدية, فقد أدرك تاجر الدخان الألباني الأصل محمد علي أن بناء الدولة الحديثة لا يتم إلا بالمعارف العلمية، فكان مشروعه للابتعاث العلمي, سببا في اتساع مدارك العلماء وانبلاج أفكار التقدم ابتداء من رفاعة الطهطاوي وحسين المرصفي ثم طه حسين ومصطفى السباعي وخير الدين التونسي والشيخ قبادو وحسين بن أبي الضياف وحسين الجسر ومحب الدين الخطيب وعبد الحميد الزهراوي وزكي مبارك وعلي عبد الرازق وغيرهم.
إنشرها