Author

حرية الإعلام وضبابية الحدود بين الدبلوماسية والتجسس

|
شكلت تسريبات ''ويكيليكس'' أحد أهم أحداث عام 2010، وربما كانت صحيفة ''لوموند الفرنسية'' على حق، باختيارها مؤسس الموقع ''جوليان آسيان'' شخصية عام 2010، والحقيقة أنه لو لم تكن الوثائق التي سربها ''ويكيليكس'' تخص الولايات المتحدة، لما أحدثت هذا الزلزال الدبلوماسي وتداعياته على مستوى العالم، وذلك يؤكد النفوذ الأخطبوطي للسياسة الأمريكية، وتأثيرها الطاغي في القضايا الدولية، وهذه ميزة تسجل للدبلوماسية الأمريكية، ومن هنا يكمن حجم الأذى الذي ألحقه ''ويكيليكس'' بهيبة الدولة الأعظم، بنشر غسيل دبلوماسيتها وما سببه لها من إحراج أمام أصدقائها وحلفائها!. وكشفت التسريبات في أحد جوانبها خفايا الدور التجسسي للدبلوماسيين الأمريكيين، واعتبرت صحيفة ''نيويورك تايمز'' في مقال كتبه مارك مازيتي بتاريخ 28 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، ''أن واشنطن وسعت دور دبلوماسييها في جمع المعلومات الاستخبارية في الخارج وفي الأمم المتحدة ''، إذ كشفت التسريبات، أن موظفي الخارجية أمروا بجمع المعلومات عن أرقام البطاقات الائتمانية وسجل الرحلات الجوية المتكررة، وبرامج العمل والمعلومات الخاصة عن الشخصيات الأجنبية المهمة، وتقديم تفصيلات عن شبكات الاتصالات السلكية واللاسلكية، التي تدعم الجيوش ووكالات الاستخبارات الأجنبية''. #2# وللمسألة وجه آخر مثير للجدل، فما يعتبره البعض تورط الدبلوماسيين بأعمال تجسسية، يعتبره آخرون في صلب العمل الدبلوماسي، حيث تشكل البرقيات والرسائل التي يبعثها هؤلاء الدبلوماسيون جزءا من خدمة المصالح العليا لبلدهم، فيحرصون على نقل كل صغيرة وكبيرة إلى وزارة الخارجية، سواء من خلال مهمات التجسس أو عبر ما يسمعونه من قادة وسياسيين في الدول الأخرى في جلسات مغلقة!. وحسبما كشفت برقيات وزارة الخارجية فإن هذه التوجيهات ''تبدو وكأنها تجعل الحدود التقليدية بين رجال الدولة والجواسيس ضبابية وغير واضحة المعالم''. بدت الحملة الأمريكية لملاحقة جوليان أسانج، وكأنها نسخة أخرى ''مصغرة'' عن الحملة التي أطلقتها إدارة بوش، منذ بداية القرن الحالي لملاحقة زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، في إطار الحرب الأمريكية على ''الإرهاب''، وبدا ذلك من تصريحات المسؤولين الأمريكيين، فقد وصف نائب الرئيس جون بايدن في حديث لشبكة ''إن بي سي - 19 كانون الأول (ديسمبر) الماضي'' أسانج '' بأنه ''إرهابي يستخدم التكنولوجيا الحديثة وقام بأمور عرضت للخطر أرواح ومهن مئات الأشخاص في العالم، وجعل تسيير أعمالنا أكثر تعقيدا مع حلفائنا وأصدقائنا''. كما اعتبرت بعض وسائل الإعلام أن أنشطة أسانج هي إرهابية، وطالبت سارة بالين حاكمة ولاية آلاسكا بمعاملته أسوة بأسامة بن لادن. وطالب مساعد رئيس الوزراء الكندي باغتياله!. لكن رغم الاختلاف الجوهري بين طبيعة الضربات التي وجهها كل من بن لادن وأسانج، حيث تبنى تنظيم القاعدة هجمات 11 أيلول (سبتمبر) الدموية، فيما نشر ''ويكيليكس'' غسيل الدبلوماسية الأمريكية، ففي كلتا الحالتين تلقت هيبة الدولة الأعظم في العالم ضربة موجعة، وفقدت الكثير من مصداقيتها أمام حلفائها وأصدقائها، واعتبرت تعليقات بعض السياسيين والمحللين تسريبات ''ويكيليكس'' الأخيرة بمثابة'' 11 أيلول (سبتمبر) الدبلوماسية الأمريكية''! من جهة أخرى، فقد طرحت التسريبات إشكالية الشفافية في نشر المعلومات وحرية الإعلام، التي تعتبر مصانة وفق الدستور الأمريكي، وفي سياق ردود الفعل العاصفة التي أثارتها التسريبات، ذهب اثنان من عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي هما كولين راولي وبودجان دزاكوفيك في مقال نشراه أواخر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، إلى اعتبار ''ويكيليكس'' ''صمام أمان ضد الإرهاب، وانه لو كان موجودا عام 2001، لربما لم تقع هجمات 11 أيلول (سبتمبر)''، وحجتهما في ذلك أنهما قبيل الهجمات ''التقطوا إشارات مزعجة عن شيء ما خطير يدبر في الخفاء ويستهدف الأمن العام في أمريكا''، ويضيفان ''مع الأسف كنا نعمل في إطار مؤسسات أمنية متحجرة، وغير قادرة على اتخاذ قرارات سريعة والتصرف بفاعلية''! لم يكتشف ''ويكيليكس'' معجزة، لكنه التقط زمام المبادرة واستثمر الفضاء الواسع الذي أتاحته شبكة الإنترنت، فهو في الحقيقة لم يقم بتحقيق صحافي استقصائي أو انفراد بنشر خبر أو ملاحقة قصة صحفية عبر مراسلين محترفين، وحتى لم يقم بتحرير الوثائق ونشرها كما هي، ولم يكن بوسع الموقع اكتساب مثل هذه الشهرة السريعة وترويج الوثائق وأحداث هذه الضجة الهائلة، لولا اتفاقه مع صحف كبرى على نشرها، مثل ''نيويورك تايمز'' الأمريكية، ''الجارديان'' البريطانية و''لوموند'' الفرنسية، ولا شك أنه تصرف بذكاء، في الوقت الذي ربما كانت العديد من وسائل الإعلام الأمريكية الكبرى، قادرة على الوصول إلى الوثائق والمعلومات، لكن كان لها حساباتها في النشر، وبين ذلك الوقوف عند ''الخطوط الحمر'' المتعلقة بالأمن القومي، وفي هذا الصدد تستشهد صحيفة الـ ''واشنطن بوست'' في مقال بعنوان ''ويكيليكيس ومعضلة الشفافية'' بقلم ريتشارد كوهين ''6 كانون الأول (ديسمبر) الماضي''، بالفضيحة الجنسية للرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون مع المتدربة في البيت الأبيض ''لوينسكي''، حيث تشير إلى أن المعلومات كانت متوافرة لدى مجلة ''نيوزويك''، والـ ''واشنطن بوست'' في 17 كانون الثاني (يناير) 1998، لكن وسائل الإعلام الرئيسة ترددت بالنشر، وتطلب الأمر مرور أربعة أيام أخرى فنشرت ''واشنطن بوست'' القصة وأكدت الأمر كله، ومثل هذا التأخير في نشر قصة مثيرة كهذه، يضع وسائل الإعلام في موقف حرج، وكما تقول الـ ''واشنطن بوست'' كم كان ذلك متأخرا، وكم كان قمينا بالرثاء'' وبطبيعة الحال لو كان ويكيليكس أو الإعلام الإلكتروني موجودا في ذل الوقت، لانتشرت القصة بسرعة النار في الهشيم. ''آسيان'' في نظر الإدارة الأمريكية متهم بانتهاك قانون التجسس، وتعريض حياة أمريكيين للخطر، وحسب نائب الرئيس بايدن ''لقد تآمر مع عسكري أمريكي لوضع اليد على هذه الوثائق السرية، فالأمر مختلف بشكل كبير عن صحافي نسلمه إياها''، ولأن قانون مكافحة التجسس الصادر عام 1917 يشمل وسائل الإعلام التقليدية، فهو لا يطول الإعلام الإلكتروني الحديث، ولذلك فإن وزارة العدل الأمريكية تسعى إلى جمع أدلة على أن ويكيليكس ''تامر'' عبر تشجيع أو حتى مساعدة العسكري الأمريكي برادلي مانينغ الذي يشتبه أنه سرب آلاف الوثائق إلى الموقع ''واتهامه بالتآمر يتيح للإدارة الأمريكية اعتبار أسانج مشمولا بمبدأ حرية التعبير التي يحميها الدستور''. ربما يذهب الخيال بالبعض إلى نظرية المؤامرة، والظن أن جهات أمريكية رسمية قد تقف وراء هذه التسريبات لحسابات داخلية! لكن التفسير المنطقي هو أن أي صحافي يخلص لمهنته ويسعى لكشف الحقيقة، يحلم بالوصول إلى معلومات ووثائق سرية ونشرها، والأهم أن يمتلك الصحافي أو وسيلة الإعلام الجرأة في النشر والتخلص من الحسابات المصلحية ومقاومة الضغوط. والحقيقة أن ''ويكيليكس'' لم يسط على الوثائق الأمريكية في الخارجية أو البنتاجون، أو حتى عبر القيام بعمليات قرصنة إلكترونية، وكما سرب العسكري ''برادلي'' وثائق حربي العراق وأفغانستان، فبالتأكيد أن من سرب وثائق الدبلوماسية، هم سفراء ودبلوماسيون وموظفون سابقون أو حاليون في الإدارة! وليس بالضرورة أن يكون هؤلاء يسعون لكشف الحقيقة، فربما يكون هناك أهداف كيدية أو بتأثير صراعات وتنافس داخل أروقة الدبلوماسية الأمريكية، وقد يكون بعضهم من بقايا عهد بوش أرادوا من ذلك الإساءة لإدارة أوباما وإظهارها بموقف ضعيف وعدم القدرة على حماية الأمن القومي الأمريكي، وأيا كانت الدوافع وقنوات تسريب الوثائق فإن النتيجة هي لمصلحة الرأي العام! وتسريبات ويكيليكس لا تتناقض جوهريا مع الشعارات التي تروج لها الولايات المتحدة وتضعها ضمن أولويات أجندتها، على مستوى العالم حول حرية التعبير والشفافية وحقوق الإنسان وحق الشعوب في معرفة الحقيقة. وفي الجوهر لم تكشف الوثائق المسربة أسرارا خارقة، فكثير منها أشبه بمحاضر اجتماعات سرية عقدت بين دبلوماسيين أمريكيين ومسؤولين أجانب، وبعضها يتضمن تقييمات وآراء واجتهادات وتحليلات ليس بالضرورة أن تكون صائبة بل ربما يكون بعضها مفبركا، تتعلق بالشأن الداخلي في الدول التي يعملون فيها، والعديد من تلك التقييمات يتضمن نقدا لاذعا أو نظرة ازدراء لمسؤولين في بعض الدول، إضافة إلى نقل ''معلومات تجسسية''، فمعظم ما تضمنته الوثائق تعكسه السياسة الخارجية الأمريكية، وهي معروفة للرأي العام، لكن الأمر المثير هو إحراج الأصدقاء والحلفاء، والتسبب بضعف الثقة والمصداقية، حيث سيتعامل هؤلاء الساسة والمسؤولون الأجانب بالشك، خلال لقاءاتهم مع الدبلوماسيين الأمريكيين في المستقبل! ومن هنا يقرأ تحذير الناطق باسم الخارجية الأمريكية كراولي من خطورة تأثير فحوى الوثائق على مصداقية واشنطن كشريك دبلوماسي، والتسبب في توتر بين الدبلوماسيين الأمريكيين والأصدقاء عبر العالم. والحديث عن حرية الإعلام، لا ينسينا حقيقة أن الدول تحتفظ بأسرار في إدارة شؤونها وعلاقاتها، وهي تلجأ لذلك عبر القنوات الدبلوماسية وتجنيد الجواسيس، وإبرام التحالفات والاتفاقات السرية، فلا يعقل أن يتم الكشف عن كل صغيرة وكبيرة في علاقات الدول. لعل الأكثر إثارة للسخرية في حملة مطاردة أسانج، التهمة التي تم فبركتها له باغتصاب سيدتين سويديتين، واللافت أن إصدار مذكرة الاعتقال الدولية بحقه تزامن مع نشر الموقع الوثائق الأمريكية، والمؤسف أن السلطات السويدية بدت متواطئة في افتعال هذه القضية، وحتى تهمة الاغتصاب وفقا لملف القضية تبدو بالغة الهشاشة، إذ إن السيدتين اللتين ادعتا ضد ''آسيان'' وافقتا على إقامة علاقة جنسية معه، خلال زيارته للسويد في الصيف الماضي، لكنه حسب زعمهما رفض استخدام الواقي الذكري، فهل أكثر غرابة من هذه القصة في المجتمعات الغربية المتاحة فيها الحرية الجنسية بلا حدود؟ وهل ثمة عاقل تجاهل الربط بين غضب واشنطن ومطالبتها بـ ''رأس'' آسيان، وتهمة الاغتصاب التي يتحدثون عنها؟ تسريبات ويكيليكس فتحت صفحة جديدة في الميديا العالمية، في ظل عالم افتراضي لا تقيده حدود، وتقف الدول وفي مقدمتها الدولة الأعظم بكل أجهزتها ومؤسساتها عاجزة أمامه، وحتى بعد إيقاف السلطات البريطانية أسانج واصل زملاؤه في الموقع نشر الوثائق الأمريكية، وشن أنصاره حرب معلومات إلكترونية، ردا على محاولات عرقلة الوصول إلى الموقع، وتم تعطيل موقعي شركتي بطاقات الائتمان العملاقتين ماستركارد وفيزا وأمازون، بسبب قرارها عدم التعامل مع ويكيليكس تحت ضغوط أمريكية، وفي حرب إلكترونية كهذه لا تنفع معها الترسانة الأمريكية من الأسلحة ''الذكية''! البعض لاحظ أن إسرائيل هي الرابح الأكبر من التسريبات، ولا يظن أحد أن ثمة مؤامرة تقف خلف التسريبات، والسبب الجوهري أن السياسة الإسرائيلية لها وجه واحد، وما تخطط له بالسر يترجم إلى خطط عمل وسياسات عنصرية يدفع الفلسطينيون ثمنها يوميا، وهو نهج خارج سياق الحياة السياسية العربية البعيدة عن الشفافية.
إنشرها