Author

حرب باردة في خليج ساخن

|
تحتل منطقة الخليج مكانة جيوسياسية ـــ استراتيجية رفيعة، وقد ازدادت أهميتها خلال العقود الخمسة الماضية، لا سيما بعد استكمال استقلالها في السبعينيات من القرن الماضي، لما تمتلكه من طاقات وإمكانات كبيرة، الأمر الذي عرّضها لتحديات خطيرة نظراً لتصارع القوى الدولية وتقاطع مصالحها، سواءً خلال الحرب العالمية الباردة أو بعد انتهائها. وقد كانت المنطقة خلال السنوات الثلاثين سنة ونيّف الماضية مسرحاً للكثير من الأحداث الدولية والإقليمية التي أثّرت في قضايا السلم والأمن الدوليين، حيث شهدت اندلاع الحرب العراقية ـــ الإيرانية، التي دامت ثماني سنوات بالكمال والتمام 1980-1988 ، وأعقبها إقدام النظام السابق في العراق على غزو الكويت في الثاني من آب (أغسطس) عام 1990، وما تلاها من حرب قوات التحالف لتحرير الكويت في عام 1991، ومن ثم فرض حصار دولي على العراق دام 13 عاماً، ثم الحرب على العراق واحتلاله في عام 2003، التي فتحت الباب على مصراعيه للإرهاب الدولي الذي انفلت من عقاله على نحو لم يسبق له مثيل، فضلاً عن سيادة موجة تكفيرية ضربت المنطقة كلها، مع استقطابات طائفية ومذهبية، ليست بعيدة عن تداخلات إقليمية ودولية. كما شهدت منطقة الخليج أزمة دولية حادة لا تزال مستمرة، ونعني بها الملف النووي الإيراني، الذي ترتاب منه القوى الدولية المتنفذة، ولا سيما الولايات المتحدة، خصوصاً محاولة توظيفه للأغراض العسكرية، في حين تتشبث إيران بكونه حقاً من حقوقها، مؤكدة أن بناء مفاعلات نووية هو للأغراض السلمية، في حين تُبدي العديد من دول الخليج مخاوف شديدة بشأن تفاقم الأزمة الأمريكية ـــ الإيرانية، بخصوص الملف النووي، ناهيكم عن احتمال تحوّلها إلى ساحة للصدام، دون أن تخفي قلقها من التمدّد الإيراني وعلاقة إيران مع بعض القوى الراديكالية في المنطقة سواءً حزب الله اللبناني أو حماس الفلسطينية أو القوى الإسلامية الشيعية في العراق، أو بعض دول الخليج، لا سيما في البحرين والكويت وحركة الحوثيين في اليمن، الأمر الذي يؤثر في طبيعة العلاقة مع إيران وآفاقها ومستقبلها. ويمكن القول إن ثمة مخاوف قديمة وتاريخية وأبعد من حدود الملف النووي، لكن بعض المخاوف الجديدة تعززت من خلال الأطروحات ذات الطبيعة الأيديولوجية للجمهورية الإسلامية الإيرانية، بعد الثورة، عام 1979، والدعوات التي رافقتها للتصدير والانتشار. ولعل الحديث عن أمن الخليج لا يستقيم دون التوقف طويلاً عند الصراع العربي ـــ الإسرائيلي، منذ قيام "إسرائيل" في عام 1948 وحتى اليوم، لا سيما عدوانها المتكرر على الشعوب العربية، الأمر الذي أسهم في تعطيل التنمية وتعليق الإصلاح والتحوّل الديمقراطي، لا سيما في أواخر الثمانينيات حين انهارت الكثير من الأنظمة الشمولية وهبّت رياح التغيير على المنطقة، لكن أمواجها انكسرت عند شواطئ البحر المتوسط، بسبب مصالح القوى الدولية الكبرى، وخصوصاً المناصرة لإسرائيل. وقد ساهم الصراع العربي ـــ الإسرائيلي في إهدار عائدات النفط، واستنزاف دول المنطقة باللجوء إلى التسلّح، بمبررات التحدي الخارجي، وسواءً كان الأمر حقيقياً أو شمّاعة يتمّ تعليق الأمور عليها، لكن ذلك كان عاملاً كابحاً للتطور والتنمية وكبت الحريات وهدر حقوق الإنسان. وبالطبع فإن ذلك انعكس وينعكس على ساحة النفط الذي كان ولا يزال أحد أهم عناصر الصراع في المنطقة، وخصوصاً في السبعينيات عندما استخدمه العرب كأحد الأسلحة الاقتصادية في "المعركة"، ولا سيما بعد حرب تشرين الأول (أكتوبر) عام 1973. لقد شغل أمن الخليج خلال الأسابيع القليلة الماضية عدداً من الفعاليات السياسية والأكاديمية الرفيعة المستوى، ففي فترة متزامنة، انعقدت قمة مجلس التعاون الخليجي (الذي يضم ست دول وهي: السعودية والكويت والبحرين وقطر والإمارات وعُمان) والذي تأسس في عام 1981، أي بُعيد الحرب العراقية ـــ الإيرانية، وناقش موضوع أمن الخليج باستفاضة كبيرة مبدياً مخاوف شديدة إزاء تطورات الأحداث، لاسيما بخصوص الملف النووي الإيراني، والعلاقات الإيرانية ـــ الأمريكية التي قد تتطور إلى شكل من أشكال المجابهة العسكرية، بعد الحصار الاقتصادي والضغط السياسي الدولي. كما التئام اجتماع جنيف بين ممثلين عن الدول الخمس الدائمة العضوية وألمانيا مع ممثلي إيران لبحث تطورات موضوع الملف النووي الإيراني، بما له العلاقة بأمن الخليج ومسألة العقوبات. واختتم قبل فترة قصيرة "منتدى حوار المنامة" الذي انعقد في العاصمة البحرينية والذي تناول موضوع أمن الخليج والملف النووي الإيراني، وقد استمع العالم كلّه إلى تحذيرات وزيرة خارجية الولايات المتحدة هيلاري كلينتون التي لم تكن تخفي خطط واشنطن إزاء طهران. وانعقد أواخر تشرين الأول (أكتوبر) مؤتمراً أكاديمياً في نيودلهي بحضور نخبة أكاديمية ودبلوماسية متميّزة وكان بعنوان "الهند ودول مجلس التعاون الخليجي ـــ إيران والعراق: مستجدات الأمن وآفاقه". كما شغل ما نشر في موقع ويكيليكس الإلكتروني، لا سيما المراسلات السرية بخصوص إيران والملف النووي وأمن الخليج، حيّزاً كبيراً من التعليقات وردود الفعل المختلفة، ولعل ذلك هو أول الغيث، ارتباطاً مع غيره من الأحداث المهمة. إن مناسبة الحديث هذا هو انعقاد مؤتمر "حوار باريس" حول أمن الخليج، الذي أكّد أنه جزء من الجدل والنقاش الفكري والدبلوماسي والعسكري والسياسي والمدني بأبعاده المختلفة، خصوصاً أنه تلمّس خطورة ذلك بحكم موقعه الدولي وبحكم سياقاته الأكاديمية والعملية وتجربته الغنية، التي تمتد إلى عقدين من الزمان، وهو ما لفت إليه الانتباه الدكتور صالح بكر الطيار رئيس مركز الدراسات العربي ـــ الأوروبي، وما نوّه إليه في جلسة الافتتاح هيرفي دي شاريت وزير خارجية فرنسا الأسبق ورئيس المعهد اليورومتوسطي، وهما يخاطبان النخبة الفكرية والسياسية والأكاديمية العربية والغربية. يمكن القول إن الخليج يعيش منذ سنوات حروباً مختلفة، أكثرها عمقاً واستمرارية واستنزافاً، هي الحرب الباردة، بين قوى دولية وإقليمية، وبين القوى الإقليمية ذاتها، وبين مكوّنات قائمة سياسية واجتماعية داخلية وإقليمية، وأخرى يُراد لها أن تقوم، دون أن يعني ذلك تجاوزاً على هوّيات وجدل وصراع واصطفافات طائفية ومذهبية وسياسية ودينية، وتقاطع مصالح واتفاقها أحياناً، في إطار سسيوثقافي سياسي وعسكري، حاضر ومستقبلي. وإذا كانت الحروب العسكرية معروفة، فإن قضايا الإرهاب الدولي لا تزال تتفاعل وتتداخل، لا سيما تفريخ تنظيمات القاعدة وانتقالها من بلد إلى آخر، بدءًا من أفغانستان ومروراً بالباكستان وانتشارها من وإلى العراق، وصولاً إلى دول المنطقة، بل وإلى العالم أجمع. ليس هذا فحسب، بل إن ظاهرة القرصنة تفاقمت في السنوات الأربع الماضية أيضاً، ولا سيما في القرن الإفريقي التي تهدد حرية الملاحة في الممرات النفطية، خصوصاً في بحر العرب وصولاً إلى باب المندب، مع استمرار الوضع المضطرب في الصومال دون إغفال ما يجري في جنوب السودان، والذي قد يشهد احتراباً بعد إجراء الاستفتاء بشأن الوحدة أو الانفصال في التاسع من كانون الثاني (يناير) 2011. وليس بعيداً عن ذلك الحرب المستمرة بين القاعدة والسلطات اليمنية، فضلاً عن حركة الحوثيين، وهو ما يزيد صورة الإرهاب الدولي التباساً وغموضاً منذ أن استفحلت في التسعينيات. لكن الحروب العسكرية المعروفة رافقتها على نحو أشد وأعمق تأثيراً وربما ستكون مخاطرها أكثر عمقاً هي الحرب الباردة في الخليج، وهو ما يمكن أن نطلق عليه اسم "قوس الأزمات" الذي يطوّق دول مجلس التعاون الخليجي، ويؤثر مباشرة في إيران والعراق، وعلى الأمن والسلم الإقليميين، حيث لا يمكن استبعاد تركيا عنهما مثلما لا يمكن استبعاد الباكستان وأفغانستان وصولاً إلى الهند والصين. ولعل هذا التأثير يمتد ليشمل طرق النفط شريان الحياة، لاسيما لأوروبا والولايات المتحدة، وهذا يعني أن العالم كلّه سيكون مهدداً بسبب احتدامات الوضع في الخليج. يعاني الخليج منذ سنوات طائفة من اختلالات وتحديات في الأمن الإقليمي، وإنْ لم تتوافر بيئة صالحة لتسويتها وتعظيم ما هو مشترك، فإن سلم وأمن المنطقة سيكون مهدداً بأخطار جسيمة، وسيكون مستقبلها محفوفاً بالمخاطر. لعل صورة الخليج خلال العقد المنصرم وربما ستبقى ملامحها الأساسية قائمة خلال العقد القادم تتحدد بغياب التوازن الاستراتيجي بعد احتلال العراق، واستمرار الوجود العسكري الأمريكي في الخليج، اتّسع بعد عملية غزو الكويت عام 1990 وما بعدها. ولعل استمرار الاحتدام بشأن المفاعل النووي الإيراني والمخاوف الخليجية، سيدفع دول مجلس التعاون الخليجي إلى الاعتماد أكثر على الحماية الغربية على ما فيها من إشكاليات. ومنذ مطلع الألفية الثالثة كانت منطقة الخليج أكثر المناطق تسلّحاً في العالم وأكثرها حماسة في شراء ما تنتجه مصانع الأسلحة، تلك التي صرفت فيها أموالاً هائلة كان يمكن تخصيصها لقضايا التنمية، بدلاً من سباق التسلّح المحموم. كما تعاني منطقة الخليج من استشراء ظاهرة الإرهاب الدولي العابرة للحدود، سواءً من قبل تنظيمات القاعدة أو من بعض قوى "الإسلام السياسي" التي أخذت تقلق حكومات دول الخليج، لا سيما استمراره كظاهرة خطيرة، واستمرار النزاعات الحدودية، وإن كان بدرجات متفاوتة في الحدّة، إضافة إلى مشكلة الجزر الثلاث أبو موسى والطنبين (طنب الصغرى وطنب الكبرى) منذ عام 1971 والتي لا تزال إيران تتمسك بها رغم المناشدات الإماراتية والعربية والدولية. وتعاني منطقة الخليج من استمرار مشاكل المياه بخصوص شط العرب، واتفاقية السادس من آذار (مارس) 1975، إضافة إلى نهر كارون وغيرها بين العراق وإيران، مثلما هو استمرار مشكلات الحدود، وتداخل بعض آبار النفط التي تثير مشكلات حول أحقية امتلاكها، كما حصل أخيرا في بئر فكّة جنوب العراق. ولعل من يضغط على منطقة الخليج أيضاً هو استمرار تنكّر "إسرائيل لحقوق الشعب العربي الفلسطيني، لا سيما حقه في تقرير المصير وبناء الدولة الوطنية المستقلة وحق عودة اللاجئين، الأمر الذي ينعكس سلباً على منطقة الشرق الأوسط وأمن الخليج معاً، فضلاً عن قضايا التنمية ككل في المنطقة". ومع استمرار هذه التحديات وتوتّر الأوضاع، لا سيما بخصوص الملف النووي تتصاعد وتيرة الحرب الباردة لدرجة تبدو الحرب الوشيكة الوقوع أو المحتملة قائمة، أو تكاد تقترب، بالوسائل العسكرية بضربة ضد إيران من جانب واشنطن أو تل أبيب أو بالوسائل الاقتصادية والسياسية، لا سيما استمرار الحصار الاقتصادي الدولي، الأمر الذي يجعل الخليج الساخن يعيش حرباً باردة مستمرة وقد تتحول بطرفة عين إلى حرب ساخنة.
إنشرها