Author

مكانة المهنيين والحرفيين في التاريخ العربي والإسلامي

|
من يصنع الحضارات، ويبني المجتمعات، ويهيئ مستلزمات الحياة؟ إنهم العمَّال.. بما ينتجونه من إبداعات مهنية وحرفية وفكرية، ترتكز في الإسلام، على النقل والعقل المتلائمين مع الفطرة.. وهذا ما بيَّنه القرآن الكريم بكثير من التفصيل، وبيَّنته سُنَّة أفضل الخلق– صلى الله عليه وسلم– وكذلك، سيرة صحابته الكرام، والتابعين من العلماء والمؤرخين. وكنت قد بيَّنت، في المقال السابق، وبإيجاز، مكانة العمل المهني والحرفي في الإسلام، ثم وقعت على نص ذي صلة، موجود في كتاب ''نهج البلاغة''، يُنسب إلى الخليفة علي بن أبي طالب– رضي الله عنه– وجهه للأشتر النخعي لما ولاه على مصر، استرعى انتباهي لما فيه من تميّز وفائدة، إذ يمكن اعتباره وثيقة تاريخية لتصنيف ''طبقي'' للعمَّال، كقوة اجتماعية، وضرورة حضارية وعسكرية، في التاريخ العربي والإسلامي. جاء في هذا النص، بتصرف واختصار: ''اعْلمْ أَنَّ الرَّعيةَ طبقَاتٌ لا يَصلُحُ بَعْضُها إِلاَّ بِبَعضٍ، ولاَ غِنَى بِبعْضِهَا عَنْ بعضٍ: فمِنْهَا جُنُودُ اللهِ، ومنها قُضاةُ العَدلِ، ومنها عمَّال الجزيةِ والخراجِ، ومِنها التُجَّارُ وأهلُ الصِّناعاتِ.. فالجنودُ سُبُل الأمْنِ، ولا تقُومُ الرَّعيَّةُ إلاَّ بِهِم، ثُمَّ لا قِوَامَ للجُنُودِ إِلاَّ بِمَا يُخْرِجُ اللهُ لهُم مِنَ الخرَاجِ... يعْتَمِدُونَ عليهِ.. ويكُونُ من وراءِ حاجتهم. ثُمَّ لا قِوَامَ لهذَيْنِ الصِّنْفَينِ إِلاَّ بالصِّنْفِ الثَّالثِ مِنَ القُضَاةِ والعُمَّالِ والكُتَّابِ، لِمَا يُحْكِمُونَ ويجمعونَ من المنافع، ويُؤْتَمَنُونَ عليهِ من خَواصِّ الأمورِ وعَوَامِّهَا. ولا قِوَامَ لَهُمْ جَميعاً (وهنا بيت القصيد) إلاَّ بِالتُّجَارِ وَذَوي الصِّناعاتِ، فيما يجْتَمِعُون عليهِ مِن مرَافقهِم، ويُقيمُونَه من أسواقهم، ويكفُونَهُم من التَّرَفُّقِ بأيديهم ما لا يبلُغُهُ رفقُ غيرهم''.. إذاً، لا يقوم المجتمع ولا يستقر إلا بالعسكر، ولا قوام للعسكر إلا بالمال، من الجزية والخراج، يلبي حاجاتهم، ثم القُضاة، وبهم يقوم العدل، بما هم مؤتمنون على تصريف عقود البيع والشراء، ثم الكتّاب من موظفين ومحررين.. ولا قوام لهؤلاء جميعاً، وكلمة ''جميعاً'' هنا معبرة عن بيت القصيد، إلا بالتجار والعمَّال الحرفيين والصنَّاع، الذين يقيمون الأسواق، ويكفون حاجات سائر فئات المجتمع، بما يتكسبون بأيديهم، أي، بمهنهم وحرفهم. هذا التوصيف، تأكيد آخر على أهمية العمَّال المهنيين والحرفيين لجميع الفئات الاجتماعية الأخرى، ودليل آخر على أن ثقافة العمل في الإسلام منحازة إلى جانب العمَّال كقوى منتجة.. فالنص أعلاه صريح في معناه: إذ لا قوام للمجتمعات إلا بالعمَّال والصنَّاع والحرفيين، الذين يتقنون مهنهم وحرفهم، والاهتمام بهم لا يلزمه ''واسطة'' أو محاباة.. كما جاء لاحقاً في وسط النص: ''ثُمَّ انظُر في أمُورِ عُمَّالك فاستعمِلهُمُ اختباراً (أي امتحنهم في قدراتهم الإنتاجية)، ولا تولهم مُحاباةً وأثَرَةَ..''. وأخيراً، يأتي الحسم، ليُظهر مكانة المهنيين والحرفيين، في آخر النص: ''ثُمَّ استَوصِ بالتُّجَّارِ وذَوي الصِّناعاتِ وأَوْصِ بِهِمْ خَيْراً: المُقِيم مِنهمُ، والمُضْطَرِبِ بِمالهِ (المتردد بأمواله بين البلدان) والمترفِّقِ ببَدَنِهِ (المكتسب بعمله اليدوي)، فإنهم موادُّ المنافع، وأسباب المرافق''..، فصاحب النص، ذكر العسكر كمادة للأمن والأمان، وذكر الكُتَّاب والقضاة والجباة.. ولكنه، عاد ليركز على العمَّال المهنيين والحرفيين، ويستوصي بهم خيراً، كونهم عماد الحياة للدولة، ولسائر فئات المجتمع! وإذا بنينا، على هذا النص، قراءاتنا للمصادر في التاريخ العربي والإسلامي، لوجدنا، وعلى الدوام، تقديراً واحتراماً للعمَّال، واهتماماً بالغاً بهم، كقوة منتجة، في المعادلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهذا ليس بغريب على الإسلام الذي رفع من شأن العمل إلى مصاف العبادة..! ومن يقوم بالعمل غير العمَّال؟! ولكن، الغريب في الأمر، كما ألمحت في مقالي السابق، أن شبابنا الذين يعيشون في هذه البلاد، التي أنعم الله عليها بالقدسية، وأنعم على أهلها بالعقيدة الصافية، والثروة، ومجالات العمل والإنتاج، وقبل ذلك وبعد ذلك، أنعم عليهم بولاة أمر عدل منفقين، ثم شبابنا يلوون شفاههم امتعاضاً، حين نُعدِّد لهم المهن والحرف التي يستطيعون من خلالها أن يحافظوا على هويتهم وثقافتهم، وأن يحافظوا على مجتمعهم وخصوصياتهم وثرواتهم واستقلالهم!؟ خاصة، إذا عدنا إلى النص أعلاه مرة بعد أخرى، لاستشعرنا ذلك المضمون الذي يعتبر العمَّال بشكل عام، والمهنيين والحرفيين بشكل خاص، خير البريّة، بهم قوام المجتمع بسائر فئاته، وبهم الأمن والاستقرار، لا بل بهم تتحقق روح الإسلام ومقاصده.
إنشرها