Author

أوروبا والكيمياء المالية

|
إنه لمن المعترف به عالمياً أن أحد العوامل الرئيسة وراء اندلاع الأزمة المالية أثناء الفترة 2007/2008 كان انتشار التزامات الدين المضمونة، تلك الأداة سيئة السمعة المنشأة لغرض خاص، والتي حولت الديون ذات التصنيف المنخفض إلى ديون ذات تصنيف مرتفع. ولكن على الرغم من فقدان هذه الهياكل لشعبيتها في ''ووال ستريت'' فإنها اكتسبت شعبية على الجانب الآخر من الأطلسي. والواقع أن مرفق الاستقرار المالي الأوروبي، الذي أسسته بلدان منطقة اليورو في أيار (مايو) الماضي، يُعَد التزام الدين المضمون الأضخم على الإطلاق. فكما هي الحال مع التزامات الدين المضمونة تم تسويق مرفق الاستقرار المالي الأوروبي باعتباره وسيلة للحد من المخاطر. ومن المؤسف أن النتيجة قد تكون مماثلة: دخول النظام المصرفي برمته في حالة من الفوضى. إن التزامات الدين المضمونة عبارة عن شكل من أشكال الكيمياء المالية: فهي أدوات ذات غرض خاصة تشتري المعادل المالي لمعدن رخيص مثل الرصاص (الأوراق المالية المنخفضة التصنيف والمدعومة بالرهن العقاري) وتمول نفسها في الأغلب بالمعادل المالي للذهب (السندات المطلوبة بشدة والتي تتمتع بالتقييم أأأ). ويستند هذا التحول إلى مبدأ سليم ومبدأين آخرين مزعزعين. المبدأ السليم يتمثل في الضمانات الزائدة. فإذا كان لدينا 120 دولارا أمريكيا من الضمانات لسندات بقيمة 100 دولار، فهذا يعني أن السند أكثر أماناً بلا أدنى شك. ولكن مدى أمان هذا السند يتوقف على عائدات مجموعة السندات التي يتألف منها التزام الدين المضمون. ويتلخص المبدأ المزعزع الأول في التالي: إذا كان العائد على هذه السندات مترابطاً بشكل وثيق، إلى الحد الذي يجعلها تعجز عن الوفاء بالعائد في الوقت نفسه، فإن المبالغة في الضمانات لن يساعد كثيرا. وفي المقابل، إذا لم يكن العائد مترابطاً، فمن غير المرجح على الإطلاق أن تعجز كل السندات عن الوفاء في الوقت نفسه، الأمر الذي يجعل من المبالغة في الضمانات كافية لضمان عائد أكثر أمانا. ولكن من المؤسف أننا لن نجد نموذجاً رياضياً دقيقاً نستطيع به تحديد علاقة الترابط بين الأوراق المالية، حيث يتم تحديد هذه العلاقة دوماً بالاستناد إلى تخمين مبني على الاطلاع في الأغلب (وفي بعض الأحيان بالكامل) على سلوك الأوراق المالية في الماضي. وهذا يعني أن انفجار التزامات الدين المضمونة في الولايات المتحدة أثناء موجة ازدهار الإسكان كان مبنياً على افتراض هش مفاده أن أسعار المساكن لا تهبط على المستوى الوطني بالكامل أبدا. والمبدأ المزعزع الثاني هو أن توثيق مصداقية هذه الأدوات يفرض على الجهات المصدرة لالتزامات الدين المضمونة الاعتماد على وكالات تصنيف الائتمان. والواقع أن هذه الوكالات كانت جديرة بالثقة تاريخياً فيما يتصل بتوقع المخاطر المترتبة على عجز الشركات عن سداد ديونها. بيد أن القدر الأعظم من مصداقية هذه الوكالات يعتمد على توازن هش للقوى. وبما أن كل جهة مصدرة كانت تمثل نسبة ضئيلة من عائداتها، فإن وكالات التصنيف كانت غير راغبة في تعريض سمعتها للخطر لأجل خاطر أي جهة مصدرة منفردة. ولكن سوق التزامات الدين المضمونة كانت على الرغم من ذلك مركزة: حيث سيطرت ست أو سبع جهات على معظم السوق، وانتهى الحال بهذه السوق إلى تمثيل 50 في المائة من إجمالي العائدات المكتسبة من خلال تقييمات التصنيف. وعلى نحو مفاجئ، اكتسبت الجهات المصدرة نفوذاً أعظم كثيراً على وكالات التصنيف، وكانت كمثل أي بائع بارع على استعداد للتنازل قليلاً على أمل ترغيب العملاء المهمين. ونتيجة لهذا فإن سوق التزامات الدين المضمونة لم تنجح كثيراً في نشر المخاطرة بل حولتها وخبأتها. وعندما بدأت سوق الإسكان في الولايات المتحدة في الهبوط فإن أكبر شركات التأمين (مثل شركة كانتري وايد) لم تفلس على الفور، وذلك لأنها باعت الأغلبية العظمى من قروضها لسوق التزامات الدين المضمونة. ولكن في النهاية كادت حالة عدم اليقين التي خلقتها التزامات الدين المضمونة هذه تتسبب في هدم النظام المصرفي الأمريكي بالكامل. والآن تسلك أوروبا مساراً مماثلا. إن مرفق الاستقرار المالي الأوروبي، الذي تم تأسيسه لمساعدة البلدان التي تواجه خطر ''نقص السيولة''، مصمم على غرار التزامات الدين المضمونة تماما. ذلك أن مرفق الاستقرار المالي الأوروبي يشتري سندات البلدان التي تجد صعوبة في تمويل نفسها في السوق (إيرلندا على سبيل المثال) وتصدر سندات ذات تصنيف (أأأ). ولكن كيف قد تكون هذه الكيمياء المالية ممكنة؟ إن الأمر يعتمد مرة أخرى على الضمانات المفروطة، وعلى افتراض الانتشار المشترك للنتائج المحتملة، وختم الموافقة الذي لا مفر من الحصول عليه من ثلاث وكالات تصنيف ائتماني كبرى. وفي ظل مرفق الاستقرار المالي الأوروبي، فإن فرط الضمانات يتخذ هيئة ضمانات تقدمها بلدان أخرى في منطقة اليورو. ولكن من بين البلدان الرئيسة، فإن فرنسا وألمانيا فقط لديهما تصنيف (أأأ). ولكن كيف لسند مضمون في الأغلب من جانب بلدان مثل إيطاليا وإسبانيا (مرشحة لأزمة مالية محتملة) أن يزود السندات الأيرلندية بالتصنيف (أأأ)؟ طبقاً لـ ''ستاندرد آند بورز'' على سبيل المثال فإن تقييم المرفق المالي للاستقرار الأوروبي يعكس وجهة نظرنا التي تفترض أن الضمانات المقدمة بسندات سيادية تحمل التقييم (أأأ) والاحتياطيات من السيولة المتوافرة المستثمرة في أوراق مالية ذات تصنيف (أأأ)، ستغطي كافة التزامات مرفق الاستقرار المالي الأوروبي. ولكن قيمة الضمانات تتوقف على الموقف. فطالما الدولة الوحيدة المحتاجة إلى الإنقاذ هي إيرلندا فلا توجد مشكلة. ولكن كان لزاماً على مرفق الاستقرار المالي الأوروبي أن يضمن إسبانيا، فهل تكون ألمانيا على استعداد حقاً للتدخل واستخدام أموال دافعي الضرائب الألمان لتغطية خسائر البنوك الإسبانية؟ وإلى أي مدى قد تتعرض البنوك الفرنسية والألمانية للخطر ـــ وبالتالي ما مدى الإجهاد المالي الذين ينتظر فرنسا وألمانيا؟ وهنا أيضاً لا توجد صيغة رياضية قد تساعدنا، وذلك لأن ما نحتاج إليه لاختبارها هو مدى معقولية افتراضاتنا. ولهذا السبب يصبح رأي وكالات التصنيف بالغ الأهمية. ولكن من المؤسف أننا لا بد أن نتساءل عن مدى تشوه هذه التقييمات بفعل السلطة السياسية لبلدان منطقة اليورو. منذ اندلاع الأزمة، كانت وكالات التصنيف عُرضة للهجوم، وكانت التنظيمات الرئيسة التي قد تؤثر بشدة في عمل هذه الوكالات موضوعاً للمناقشة على جانبي الأطلسي. ونظراً لهذا، فما مدى الحرية التي قد تتمتع بها وكالات التصنيف الائتماني في التعبير عن رأيها في المؤسسات التي ستتولى تنظيمها؟ سيكون لزاماً علينا أن ننتظر تسعير سندات مقايضة العجز عن سداد الائتمان على ديون مرفق الاستقرار المالي الأوروبي، التي من المفترض أن تصدر في كانون الثاني (يناير)، كي نرى ما إذا كانت السوق تحترم هذه التقييمات. بيد أن ألمانيا المستقلة عن هذا الاختبار تبدو وكأنها نجحت في تحقيق المستحيل: فقد ساعدت البلدان المتعثرة، من دون تحمل أي مبلغ (في الوقت الحالي). ولكن فيما يتصل بالتزامات الدين المضمونة فإن هذا قد يشكل نصراً باهظ الثمن. فقد اشترى مرفق الاستقرار المالي الأوروبي كسباً قصير الأجل في مقابل خسائر أضخم كثيراً إذا تدهور الموقف: ذلك أن اندلاع أزمة مالية في إسبانيا من شأنه أن يؤدي إلى انهيار الصرح بأكمله.بعد أزمة الرهن العقاري الثانوي، زعم الساسة أن السوق كانت تتسم بقصر النظر والطيش، واندفعوا إلى اقتراح تنظيمات جديدة. ورغم أن بعض الانتقادات قد تكون في محلها، فما الذي يمنح الساسة السلطة الأخلاقية التي تسمح لهم بالانتقاد؟ كما أظهر لنا مرفق الاستقرار المالي الأوروبي فإن توجهات الساسة قد تكون أقصر نظراً وطيشاً من السوق، الأمر الذي يجعلهم يكررون الوقوع في الأخطاء نفسها لأنهم لا يتعلمون منها ـــ فيما يبدو. إن القرار الذي ستصدره السوق من غير المرجح أن يكون متساهلا. وكما قال أوسكار وايلد: ''إذا خدعتني مرة واحدة فعار عليك، أما إذا خدعتني مرتين فالعار عليّ أنا''. خاص بـ ''الاقتصادية'' حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2010. www.project-syndicate.org
إنشرها