Author

حقوق الإنسان والحقوق

|
في القرن الماضي صدر إعلانان رئيسيان، رؤى أن شأنهما إعلاء الكرامة الإنسانية، والإسهام في التقريب بين البشر، بغض النظر عن العرق والجنس واللون والمعتقد. طرح الإعلان الأول في صيغة عرفت بمبادئ ويلسون 14 للسلم وإعادة البناء بعد الحرب العالمية الأولى. وقدم في الثامن من كانون الثاني (يناير) عام 1918، من قبل الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون للكونجرس الأمريكي لإقراره. وقد أكد الإعلان على أن تستند العلاقات الدولية على مواثيق سلام عامة، وتأمين حرية الملاحة في البحار، خارج المياه الإقليمية في السلم والحرب، وتخفيض التسلح إلى الحد الذي يكفي الأمن الداخلي، وإلغاء الحواجز الاقتصادية، والمساواة بين الدول في المحافظة على السلام. وبالنسبة لنا نحن العرب، فإن أهم ما ورد في الإعلان، هو المبدأ الثاني عشر، الذي أكد على إعطاء الشعوب غير التركية التي خضعت للسلطنة العثمانية في السابق حق تقرير المصير، وحرية المرور بالمضائق لجميع السفن بضمان دولي. وقد جاء ذلك متسقا، مع وعد البريطانيين، لشريف مكة بمنح المشرق العربي الاستقلال، بعد تسوية المسائل المتعلقة بالحرب الكونية الأولى. أما الإعلان الآخر، فهو الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وتضمن 30 مادة. واعتمد بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، في العاشر من كانون الأول (ديسمبر) عام 1948م. وقد أكد هذا الإعلان على الكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية، وبحقوقهم المتساوية الثابتة، التي هي أساس الحرية والعدل والسلام في العالم. وشدد على أن الناس يولدون أحرارا متساوين في الكرامة والحقوق، ولكل إنسان ''حق التمتع بجميع الحقوق والحريات، المنصوص عليها بالإعلان، دون تمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الثروة أو الميلاد أو أي وضع آخر، دون أية تفرقة بين الرجال والنساء''. إن ذلك يعني رفض أي تمييز أساسه الوضع السياسي أو القانوني للبلد أو البلد الذي ينتمي إليه الفرد، سواء كان البلد مستقلا أو تحت الوصاية. كما أكد على حق كل فرد في الحياة والحرية والسلامة والاعتراف بشخصيته القانونية، وعدم جواز تعرض الإنسان للتعذيب والعقوبات والمعاملات القاسية أو الوحشية التي تحط من الكرامة. إن قراءة المعطيات التاريخية، التي صدر خلالها الإعلانان، توضح لنا أن مبادئ الرئيس الأمريكي ويلسون 14، هي تعبير عن صعود قوة جديدة، استثمرت الحقائق السياسية الدولية الجديدة، لتمارس دورا رياديا بالمجتمع الدولي. وأن الإعلان قد كرس الإعلان لترتيبات ما بعد الحرب، وخاصة ما يتعلق بتقاسم تركة العثمانيين. وفي هذا السياق تأتي الإشارة إلى مبدأ حق تقرير المصير، محاولة من القوة الفتية التي بزغ نجمها للحيلولة دون هيمنة القوى الاستعمارية التقليدية على مقاليد الأمور، دون الأخذ في عين الاعتبار المصالح القومية الأمريكية. بمعنى أن الإعلان هو جزء من خطة ''الإزاحة'' الأمريكية للاستعمارين الفرنسي والبريطاني عن منطقة الخليج والبحر الأبيض المتوسط. وكانت الترتيبات التي أجريت بعد الحرب العالمية الأولى، والنص بوضوح على إلغاء حق الفتح، واستبدال لفظ ''الاستعمار'' بـ ''الوصاية'' و''الحماية'' و''الانتداب''، مقدمات لإزاحة النفوذ التقليدي، وإحلال النفوذ الأمريكي الصاعد بديلا عنه. وكما كان الإعلان الأول جزءا من الترتيبات التي أعدت لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، فإن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، هو أيضا تعبير عن الحقائق الجديدة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية وانتصار الحلفاء، وبروز الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى وحيدة على الجزء الغربي من الكرة الأرضية، ثم بروز مؤشرات الحرب الباردة بين العملاقين: الأمريكي والسوفياتي. صدور الإعلانين، على هذا الأساس، هو نتاج تطور تاريخي، لكن ذلك لا ينفي كونه إنجازا كبيرا على صعيد الاعتراف بحق الأمم في تقرير المصير. إن الوعي بالظروف التي حتمت صدور الإعلانين المذكورين، وإسقاطاتهما على الأوضاع السياسية العالمية بشكل عام، ومنطقتنا بشكل خاص، ينبغي ألا يقل أهمية عن إدراك كنه النصوص التي تضمنها الإعلانان. فقد جاء إعلان ويلسون بعد شهرين فقط من صدور وعد بلفور، الذي وعد بتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين، وحظي بتأييد قوي من الرئيس ويلسون ذاته. وبهذا يكون مبدأ حق تقرير المصير الذي بشر به الإعلان المذكور متناقضا مع التأييد القوي لوعد بلفور، وعلى حساب حق تقرير مصير الفلسطينيين. بل إن وضع فلسطين تحت الوصاية البريطانية، وفقا لقرارات عصبة الأمم، اعتبر مقدمة لتنفيذ المشروع الصهيوني في تكثيف الهجرة اليهودية لفلسطين، تمهيدا لحيازتها. ولم يكن حال الإعلان الآخر، من حيث تناقض نصوصه مع المواقف السياسية للقوى التي تقف خلفه، ليختلف كثيرا عن الإعلان الأول. فقد صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بعد مرور أقل من عام على قرار تقسيم فلسطين في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1948. وفي 14 أيار (مايو) أعلن الصهاينة من جانب واحد قيام كيانهم ''إسرائيل''، وجرى الاعتراف بها بعد ساعات من قبل الدول الكبرى، التي وقفت بعد سبعة أشهر فقط من هذا التاريخ مانحة دعمها بقوة لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. إن هذا السلوك يأتي متساوقا مع تبني القيادات الصهيونية، لطرد الفلسطينيين من ديارهم، وتشريع قانون يهودية الدولة. لقد قامت ''الدولة الديمقراطية'' الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط، على استئصال شعب كامل وتشريده خارج وطنه. وتعمل الآن على طرد البقية الباقية من الفلسطينيين الذين صمدوا في مواجهة العنصرية والقمع، ومكثوا في أراضيهم بعد النكبة عام 1948. فالحل المعقول، كما تراه وزيرة الخارجية السابقة، تسيبي ليفني، لـ ''عرب إسرائيل''، أن يجدوا دولتهم القومية في مكان آخر. إن ذلك يعني نية مبيتة، لطرد أكثر من مليون ونصف فلسطيني من ديارهم، ليعيشوا في المنافي والشتات، دون حقوق أو هوية. لن يكون هناك معنى لبيانات التبجيل لحقوق الإنسان، وإعلانها العالمي ما لم يعمل المجتمع الدولي على تحقيق تطابق بين المعنى والواقع، والتصدي بقوة للنفاق السياسي وازدواجية المعايير، والإقرار بأن هذه الإعلانات هي فعلا، وكما تؤكد نصوصها تخص كل البشر، دون تمييز في اللون أو العرق أو اللغة والدين، وذلك وحده يمنح الاحتفاء بها معنى خاصا، ومضامين خاصة.
إنشرها