Author

العمل العربي المشترك: أي دور للمجتمع المدني؟

|
يشكّل المجتمع المدني في البلدان المتقدمة قطاعاً مؤثراً في عملية التنمية، بمعناها الإنساني الشامل سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وقانونياً، ويعتبر القوة الثالثة، التي لا يمكن استكمال عملية التنمية المستدامة من دونها، وهو بما يمثّله من حيوية وديناميكية يمكن أن يسهم مع القطاع الخاص في دعم القطاع الحكومي (العام) لتيسير وتطوير العملية التنموية، لا سيما إذا استطاع أن يتحوّل إلى شريك، وفي الوقت نفسه إلى قوة اقتراح للأنظمة والقوانين واللوائح المختلفة، فضلاً عن دوره في نشر الوعي الحقوقي والثقافة الديمقراطية، بالتفاعل مع دوره الرصدي والرقابي. وإذا كانت جامعة الدول العربية التي تأسست في 21 آذار (مارس) 1945 كمنظمة إقليمية دولية، لم تأتِ على ذكر دور المجتمع المدني في ميثاقها، فلأن وجوده حينذاك لم يكن مؤثراً مثلما هو عليه الآن، وخصوصاً بعد تأسيس منظمة الأمم المتحدة في 24 حزيران (يونيو) من العام ذاته، الأمر الذي ساعد في بلورة رؤية جنينية وأولية اتسعت وتعمقت في السنوات الأخيرة الماضية، ولا سيما في العقدين الأخيرين وبعد انتهاء عهد الحرب الباردة وتحوّل الصراع الأيديولوجي العالمي من شكل إلى شكل آخر، بانهيار أنظمة أوروبا الشرقية ذات الصفة الشمولية. لكن جامعة الدول العربية لم تقف خارج التطور العالمي فيما يتعلق بدور المجتمع المدني، حيث أسهمت الرؤية التحديثية والتجديدية التي شهدتها، لا سيما في العقد الماضي (أي العشرية الأولى من الألفية الثالثة) إلى الاعتراف بدوره ودعوته للمشاركة في صياغة وبلورة وجهات نظره إزاء عمليات التنمية المستدامة في إطار العمل العربي المشترك، ولا سيما بعد إنشاء مفوضية المجتمع المدني، التي تنظّم علاقة منظمات المجتمع المدني بجامعة الدول العربية، حيث تكثّفت دعوة مؤسسات المجتمع المدني العربي، لا سيما المنظمات ذات الصفة الإقليمية القومية مثل اتحاد العمال العربي واتحاد الكتّاب العرب واتحاد الحقوقيين العرب واتحاد الصحفيين العرب واتحاد المحامين العرب وغيرها. ولعل ذلك يتفق مع ما تطمح إليه منظمات المجتمع المدني وما ينسجم مع دورها أيضاً، خصوصاً وهي تسعى لكي تكون شريكاً حيوياً في اتخاذ القرار وفي العمل على تنفيذه بما تمتلكه من خبرات وطاقات في القطاع غير الحكومي، وبما تمثّله من جسور للتواصل بين القطاع الخاص والقطاع العام، حيث لا تستقيم التنمية من دون المشاركة الحيوية والفاعلة للقطاعات الثلاثة: الحكومي والخاص والمجتمع المدني. إن قوة الدولة الحديثة هي بسيادة القانون، وكلّما كان القانون هو الفصل في الحكم وفي الشرعية، فإن المجتمع المدني سيكون قوياً ومؤثراً وفاعلاً، وعلى العكس من ذلك فإن غياب أو ضعف مبدأ سيادة القانون، سيؤدي إلى إضعاف المجتمع المدني، وبالتالي إلى إضعاف الدولة وستكون الخسارة كبيرة لعملية التنمية، حتى وإنْ بدت الدولة مهيمنة أو متسلّطة، لكنها ستكون على حساب المجتمع المدني أحد أجنحة الدولة التي لا يمكن التحليق طويلاً من دونه. من جهة أخرى، فإن المجتمع المدني الطوعي، السلمي، المستقل، أو حتى ما يسمى ''بالمجتمع الأهلي'' أي الإرثي، العشائري، العائلي، مهما بدا قوياً إلاّ أنه سيكون على حساب الدولة إنْ لم يكن مكمّلاً وشريكاً لها، لأن ضعفها سيسهم في تقليص فرص تطبيق سيادة القانون، وبالتالي في وضع عقبات كبيرة وجدّية أمام تطور الدولة والعملية التنموية، بحلقاتها المختلفة. واستناداً إلى ذلك يمكن القول: إذا كان المجتمع المدني قوياً والدولة ضعيفة فإن الدولة ستتفكك وسيتقلّص معها مبدأ سيادة القانون، أما إذا كانت الدولة قوية وأضعفت من دور المجتمع المدني بالهيمنة والتسلّط، فإن ذلك سيعطل أو يضعف عملية التنمية، خصوصاً بتعطيل أحد عناصرها المهمّة. الدولة ستكون قوية بالمجتمع المدني وهما سيكونان قويّين بمبدأ سيادة القانون، الأساس الذي يمكن الاحتكام إليه، ولكي تكون مؤسسات المجتمع المدني قوية وفعّالة، فلا بدّ أن تكون مستقلة، وأن لا تكون مسيسة أو جزءا من الصراع الأيديولوجي، كما ينبغي أن تكون منظمات مفتوحة أو غير محصورة بفئة أو طائفة أو دين، وتتركز وظيفتها الأساسية في الدفاع عن مصالح منتسبيها وحقوقهم دون تمييز وأن تكون هذه المنظمات ديمقراطية في التعامل الداخلي مع جمهرة الأعضاء ومع القوى الأخرى، حيث تجري فيها انتخابات دورية وبشكل شفاف، ومن المهم أن تؤسِس وتهيئ نفسها لتكون قوة شراكة واقتراح وليس قوة اعتراض واحتجاج فحسب، على الرغم من أهمية الحقلين المشار إليهما، وأحياناً يكمّل أحدهما الآخر، ولا ينبغي إهمال أي من القوتين. إن وجود منظمات حيوية ومهنية وحقوقية يمكن أن يسهم في عملية التنمية من خلال: إعداد الدراسات والبحوث في مجال تطوير وإصلاح الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والقانونية، لا سيما المستندة إلى مبادئ الدولة العصرية الحديثة وبما ينسجم مع التطور التاريخي لمجتمعاتنا ودولنا العربية، وهذا يتطلب نشر الثقافة الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية المهنية وتعزيز الوعي القانوني والديمقراطي الذي يهيئ لعملية الإصلاح والتنمية، وذلك من خلال توفير أجواء سلمية وطبيعية ومدنية، تساعد في تفتح مؤسسات المجتمع المدني وتكون قادرة على المساهمة في مسار العملية التنموية. ولعل الإعلام وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات الحديثة يمكنها أن تسهم في العمل العربي المشترك بين الدولة والمجتمع المدني والقطاع الخاص على نطاق كل دولة وعلى المستوى العربي أيضاً بما يعزز عملية الإصلاح والتحديث والتنمية. ولا بدّ لمنظمات المجتمع المدني أن تحافظ على استقلاليتها وعدم تسييسها وربطها بجماعات سياسية حكومية أو معارضة سياسية دينية أو أيديولوجية أو غيرها، لأن ذلك سيؤدي إلى إلحاق الضرر البالغ بسمعتها وبالأهداف التي تسعى إلى تحقيقها. ولعل ذلك يتطلب التمسك بمبدأ التداول السلمي للمواقع القيادية لجميع مؤسسات المجتمع المدني بشكل ديمقراطي وسلس وإبعادها عن الصراع السياسي والاجتماعي، والتأثيرات الطائفية والمذهبية المتعصبة والمتطرفة. ولكي تقوم هذه المنظمات بدورها المنشود فلا بدّ من دعوة الحكومات العربية إلى العمل على تسهيل مشاركتها وتفعيل حضورها في الترويج لقيم الديمقراطية، والعدالة وحقوق الإنسان والتسامح، ومكافحة الفساد، وتعزيز الشفافية والمساءلة. وأخيراً فإن نشر ثقافة الحوار وقبول الرأي الآخر واحترام حق الاختلاف، والتشجيع على اللاعنف والتطور السلمي والتراكم التدريجي الطويل الأمد، يوفّر البيئة المناسبة لازدهار ثقافة المجتمع المدني ويعزز الثقة بينها وبين القطاعات المختلفة. ولكي تستطيع المنظمات والاتحادات المهنية تأدية مهماتها لدعم العمل العربي المشترك، فلا بدّ لها من اعتماد آليات مرنة ومناسبة، من خلال: إقامة المؤتمرات والندوات الهادفة إلى تطوير وتعزيز العمل العربي المشترك، والمشاركة في مبادرات تقوم بها جامعة الدول العربية والدول الأعضاء بالتعاون مع المؤسسات غير الحكومية والمنظمات والاتحادات، وإعداد دراسات وأبحاث وتنظيم فاعليات وأنشطة وبرامج تدريبية مشتركة لتكييف واستخلاص المضامين الإيجابية في الثقافة العربية ـــ الإسلامية، وخصوصاً فيما يتعلق بفلسفات الحق والحرية وتعزيز دور العمل العربي المشترك بالتنسيق بين المنظمات والاتحادات المهنية التي تتمتع بصفة مراقب في المجلس الاقتصادي والاجتماعي، والجهات المانحة عربياً ودولياً والاستفادة من التطور الدولي في هذا المجال، ويمكن لجامعة الدول العربية إقامة علاقات وطيدة مع منظمة الأمم المتحدة، ولا سيما المجلس الاقتصادي والاجتماعي فيما يتعلق بدور ومستقبل المجتمع المدني وخصوصاً العربي، وذلك بهدف تمكينه وتأهيله لكي يلعب الدور المنشود وخصوصاً فيما يتعلق بتمكين المرأة والأشخاص ذوي الإعاقة وقضايا التقدم الاجتماعي والقضاء على الأمية ومكافحة الفقر وغيرها، وبما يساعد في دعم التنمية المستدامة. إن عقد اجتماع سنوي للمنظمات والاتحادات الحاصلة على صفة مراقب بالمجلس الاقتصادي والاجتماعي، في إطار الجامعة العربية، لتبادل الخبرات والتجارب من شأنه أن يعزز التعاون بين هذه المنظمات، من خلال المشتركات العربية، لا سيما فيما يخص بالمجتمع المدني وأهدافه والقوانين التي تنظم علاقته بالدولة، وذلك في ضوء التطور العالمي، وخصوصاً الاعتراف به قانونياً والسماح له بممارسة عمله الشرعي في إطار القوانين النافذة. وقد يكون من المناسب اشتراك المنظمات والاتحادات في اجتماعات المجالس الوزارية المتخصصة واللجان الدائمة، للجامعة العربية ولكل ما له علاقة بالعمل العربي المشترك كل في مجال تخصصه. وكذلك دعوة المجتمع المدني العربي لحضور مؤتمرات القمة العربية بصفة دائمة، كإطار موازي لتقديم المقترحات والملاحظات بشأن تعزيز التنمية والمشاركة فيها بما يعزز العمل العربي المشترك. ولعل مناسبة الحديث هذا كان ورقة عمل غنيّة قدّمها اتحاد الحقوقيين العرب لإصلاح وتطوير النظام العربي قانونياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً!!
إنشرها