Author

الإرهاب الجديد.. تبادل المنافع والمصالح بين الخارجين عن القانون ومدعي الالتزام به

|
خضع الإرهاب، مفهوماً ومصطلحاً، لتغيرات كثيرة، خصوصاً بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، إذ شهد هذا المفهوم توظيفات أيديولوجية وسياسية وحتى اقتصادية وتقنية، تلونت بألوان مختلفة، وبالتالي فإن الإرهاب باعتباره ظاهرة سياسية، تعرّض لتشويه وتحريف كبيرين، مع أن عمليات توظيفه واستثماره تغايرت تاريخياً بتغاير المراحل والأقاليم المعرفية والسياسية. وفي أيامنا هذه، صار ''الإرهاب الجديد'' يثير تساؤلات عديدة، نظراً لأن هالة من الضبابية والغموض باتت تحيط به. إضافة إلى أن عديدا من الدول والمؤسسات تقوم بعمليات إرهابية خدمة لمصالحها ولما تعتبره في عداد أمنها القومي، حيث تشرف أجهزتها الاستخباراتية والعسكرية على تدريب وتمويل منظمات إرهابية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، إضافة إلى تنفيذها عمليات قذرة في بعض البلدان وإشرافها على عمليات الاغتيال السياسي وسواها من العمليات الإرهابية. وقد كشفت الوثائق التي نشرها موقع ''ويكيليكس'' أخيرا عن ''تورط'' جهات سياسية عراقية في أعمال إرهابية، حيث أشارت إلى قيام رئيس الوزراء نوري المالكي ''في إدارة فرق للقتل والتعذيب''. كما كشفت الوثائق عن دور إيران في تمويل وتنفيذ عديد من العمليات الإرهابية في العراق، فضلاً عن الدور المعروف للأجهزة الاستخباراتية الأمريكية في تنفيذ وتمويل عديد من العمليات الإرهابية في العراق وأفغانستان وفي سواهما من بلدان العالم. ولا شك في أن عالم التنظيمات الإرهابية أو العالم السفلي له قواعده وقوانينه، وكل شيء فيه مسموح، خدمة للأولويات والأجندات، فيما عالم الساسة والأنظمة والمؤسسات أو العالم العلوي، يتسم بالدعائية، ويكثر الحديث فيه عن المبادئ والفضيلة والأخلاق والالتزام بالقانون الدولي وحقوق الإنسان، والأمر يتعلق بمعظم الأنظمة السياسية الحاكمة في عصرنا الراهن، حيث تبادل المنافع والمصالح بين الخارجين عن القانون ومدعي الالتزام به من أصحاب العالمين يفعل فعله في أكثر من موضع من عالم اليوم. الإرهاب العلوي والسفلي استخدمت كلمة الإرهاب، في العصر الحديث، لتشير إلى ممارسات العنف من طرف الحكومات والأنظمة السياسية ضد سكان دولها ومواطنيها، كما حددتها الثورة الفرنسية، أي أن مفهوم الإرهاب، بوصفه عنفاً ضد المدنيين، ارتبط بسلطة الدولة في البداية، إلا أن معاني الكلمة وتوظيفاتها تغيرت كثيراً منذ ذلك الوقت، إذ اتسم مفهوم الإرهاب في مختلف المراحل بالانتقائية والمرحلية، واستثمر بغية بلوغ وتحقيق غايات سياسية معينة، الأمر الذي أكسبه صفة انتهازية. وكون الإرهاب لا يمثل معطى محدداً، يمكن أن نستقيه من التاريخ أو من التجربة، فإن ما اصطلح عليه كذلك، جرت عملية تسميته بوصفه مسألة عُرفٍ وإن دونّته بعض المواثيق الدولية. وقد جرى التمييز، في الفكر السياسي، بين نوعين من الإرهاب، الأول: إرهاب مارسته الأنظمة والحكومات على المحكومين، كما مارسته بحق الدول الأخرى، أي إرهاب السلطات الحاكمة، الساكنة في العالم العلوي. والثاني: إرهاب مارسته الجماعات المنظمة خارج إطار السلطة الحاكمة، أي الجماعات الخارجة عن القانون التي تسكن العالم السفلي. إضافة إلى ذلك، يمكن ملاحظة أشكال أخرى من الإرهاب لها جوانب متعددة، سياسية وأيديولوجية وإثنية وطائفية ودينية. لكن الإرهاب الذي مارسته السلطة ضد رعاياها يضاهي مختلف أنواع الإرهاب الأخرى، فالسواد الأعظم من أعمال العنف والاغتيال والقتل والخطف والملاحقة والسجن مارستها السلطات السياسية الحاكمة ضد خصومها السياسيين، خصوصاً في القرن الـ 20 الماضي، حيث أنشأت الأنظمة السياسية، في كثير من المواقع، مؤسسات وأجهزة ترعى وتنظم مثل تلك الأعمال الإرهابية، ومارست شتى أنواع الضغط المادي والنفسي على رعاياها، وخلقت أوضاعاً للخضوع والخنوع لا يتسع المجال لبحثها هنا، بحيث أضحى الإنسان، في مثل هذه البلاد، يعيش حالة إرهاب جعلته عاجزاً عن امتلاك ذاته، وبالتالي امتلاك أبسط حقوقه في المواطنة والرعاية. أما الإرهاب الذي مارسته الجماعات المنظمة، فقد عرف فترات متغايرة، واقترن بدعوات أيديولوجية، يسارية ويمينية وقومية وأصولية دينية، من منظمة الجيش الأحمر والألوية الحمراء والجيش الأحمر الياباني والجيش الجمهوري الإيرلندي، إلى جماعات العمل المسلح في أمريكا اللاتينية، ثم طائفة ''أوم شينريكيو'' اليابانية التي أطلقت غاز الأعصاب في أنفاق مترو طوكيو والمنظمة الأمريكية اليمينية التي نفذت تفجير ''أوكلاهوما''، وصولاً إلى تنظيم القاعدة. ولا شك في أن العنف لا يلغي عدالة القضية التي تناضل من أجلها بعض هذه المجموعات، كما أن مسألة الاعتراف بالآخر كياناً وحقوقاً، وتأكيد حق الإنسان أياً كان في المعاملة الإنسانية والعيش الكريم وضمان حقوقه المختلفة، يشكل أهم سبيل لمواجهة هذا النوع من الإرهاب. وبرز في الربع الأخير من القرن العشرين مصطلح ''الإرهاب الدولي''، حيث أعيدت أقلمة مفهوم الإرهاب بشكل معولم، واستخدم ذريعة لبناء وهم وقلق كبيرين، حيث جرى تضخيمه حتى غدا شأناً عالمياً يُخفي أيديولوجيا توجهه وفق غايات سياسية محددة. وعليه تغيرت أقلمة المفهوم حسب الإنشيالات الحاضنة له، من المجتمعات القديمة إلى صعود الرأسمالية وتنامي الحداثة، ومن الكولونيالية إلى النازية والكليانية وصولاً إلى الأحادية الأمريكية. وبعد أحداث 11 من أيلول (سبتمبر) 2001 صار الإرهاب شأناً عالمياً، يلعب الدور الرئيس في العلاقات الدولية، وتمّ إلصاق الإرهاب بالإسلام، بدعم خطاب مهيمن ترعاه دول الولايات المتحدة الأمريكية. وكشف هذا الإلصاق زيف التوجه السياسي لتوظيف المفهوم، حيث جرت محاولة تصنيف الإرهاب بحسب ديانة مرتكبيه، في حين أن كل أعمال الإرهاب التي مارستها المنظمات الصهيونية ـــ اليهودية في فلسطين لم تستدع اتهام الديانة اليهودية بالإرهاب، كما أن كثيرا من المنظمات الكاثوليكية والبروتستانتية والهندوسية وسواها، مارست الإرهاب بشتى أنواعه، ولم يجرِ الحديث يوماً عن الإرهاب اليهودي أو المسيحي أو الهندوسي. ولا شك في أن من العبث محاولة البحث عن أسباب العنف في دين معين، لأن استخدام الدين في هذا المجال هو استخدام أداتي أو سجالي، يخفي هذا الاستخدام توظيفات سياسية راهنية. الإرهاب الجديد إذا كان الإرهاب ليس جديداً، فإن الجديد هو ما توفره ثورة المعلومات والاتصالات من سبل وتقنيات للاتصال والتنظيم، الأمر الذي سمح للجماعات التي كان نشاطها ذات يوم منحصراً في النطاق المحلي أو الوطني، بالخروج من هذا النطاق الضيق إلى النطاق العالمي. وفي ضوء ذلك خرج تعريف الإرهاب الجديد، الذي ينطوي على ''احتمالية'' معينة في أن ينتقل ''الخبراء الإرهابيون'' إلى مجال عمل جديد، وعلى قدرتهم على استخدام التكنولوجيا الحديثة في الاتصالات، خاصة عن طريق الكمبيوتر والإنترنت. إضافة إلى إمكانية تجميع كل عناصر العنف والآثار السياسية والنفسية التي تحدثها في إطار استراتيجية معينة، بما يعني مضاعفة الأثر الإرهابي وإحداث التغيير المطلوب. ويجتهد الخبراء الغربيون، وخصوصاً الأمريكيون، في مراكز الأبحاث المتخصصة في دراسة أساليب عمل الإرهابيين الجدد، لكنهم لا يتناولون الدوافع والأسباب الكامنة وراء أعمالهم، لذلك يصورنهم وكأنهم جماعة من العميان، ليس لهم هدف سوى إراقة الدماء وارتكاب الجرائم. وترجع هذه الطريقة في التناول، التي تركز على الأعمال والأفعال، وتهمل الدوافع والأسباب، إلى وجود خلل في تعريف ''الإرهاب'' في حدّ ذاته في المجال السياسي الأمريكي السائد، نظراً لأنه ينحاز سلفاً إلى المصلحة القومية الأمريكية، ومعها مصلحة إسرائيل، والدفاع عنهما. وعليه يهرب السياسي الأمريكي من النقاش الذي يطاول عدالة القضية التي يموت من أجلها عديد من أفراد المنظمات المصنفة إرهابية، لأنه ينطلق من ضرورة التركيز على طبيعة العمل وليس على طبيعة القضية، ذلك أن الجدل حول طبيعة القضايا لن يقود إلى خلاصات مهمة بالنسبة إليه. وعليه، يجري الهروب والتملص من المسؤولية الأخلاقية التي يفرضها النقاش حول عدالة القضية أو عدم عدالتها، وكذلك يجري التهرب من وجه العدالة الموجود في كل قضية الذي يظهره النقاش المتمتع بالمسؤولية الإنسانية البعيدة عن المصالح السياسية الضيقة واللاإنسانية. والخطير في الأمر أن التهرب من عدالة القضية ونفيها يساوي بين المجرمين والمناضلين من أجل التحرر والخلاص من العبودية والاستغلال. غير أن الربط بين العمل بالدوافع يجري تبنيه أمريكاً عندما يتعلق الأمر بالمصالح والأهداف الأمريكية، وبتبرير ممارسات السياسة الخارجية، والأعمال العسكرية التي يقوم بها الجيش الأمريكي، التي تطول بنيرانها مدنيين عزل في أكثر من مكان بالعالم، حيث تبرر الولايات المتحدة، على الدوام، سقوط ضحايا مدنيين في حربها في العراق وفي أفغانستان بالدافع الذي تراه مبرراً كافياً، وهو محاربة وقتل الإرهابيين من أفراد تنظيم القاعدة وحركة طالبان وسواهم. وقد عمدت الإدارات الأمريكية إلى تبرير سياسة العقوبات والحصار ضد العراق خلال سنوات طويلة بدافع إسقاط نظام صدام حسين، بالرغم من أن تلك العقوبات تسببت في إزهاق أرواح آلاف العراقيين، شيوخاً ونساء وأطفالاً. الإرهاب النووي لقد تلون الإرهاب بألوان شتى، ولبس ثوباً نووياً ومعلوماتياً كي يدخل مجال التداول السياسي العالمي في عهد الرئيس باراك أوباما، وذلك بالرغم من تخليه عن مصطلح ''الحرب العالمية على الإرهاب'' التي تبنتها الإدارة السابقة وحاولت فرضها على أجندة ''المجتمع الدولي''. وبات ما يُعرف باسم ''الإرهاب النووي'' الشغل الشاغل للرئيس الأمريكي باراك أوباما، بوصفه العدو الأول الذي ستحاربه الولايات المتحدة في المرحلة الراهنة، واستدعى عقد قمة عالمية في 13 من نيسان (أبريل) 2010 لمواجهة خطره، وبالتالي، فإن مصطلح الإرهاب لن يفارق رؤوس واضعي الساسة الأمريكيين بعد 11 من أيلول (سبتمبر) 2001، بالرغم من اختلاف الإدارات وتغير السياسات والاستراتيجيات. وهناك من المحللين من يعتبر أن ما يمكن تسميته بـ ''خطر الإرهاب النووي'' هو مجرد شعار للتخويف، إذ لا توجد معلومات تؤكد احتمال حصول منظمات على أسلحة أو مواد نووية، يمكن أن تستخدمها في أنشطة إرهابية؛ لأن استخدام الأسلحة النووية لا يمكن أن تقوم به إلا الدول القوية، ويتطلب تكنولوجيا متطورة وإلى مرافق لوجستية ضخمة، كما أنه ليس هناك ما يؤكد تسرب أسلحة نووية إلى جهات ومؤسسات، يمكنها أن تهربه أو تبيعه إلى منظمات وجهات إرهابية، أو إلى ''دول مارقة'' أو خارجة على القانون الدولي. واللافت هو أن العقيدة النووية الأمريكية الجديدة، التي أعلن عن بعض تفاصيلها الرئيس باراك أوباما في مطلع نيسان (أبريل) من عام 2010، اعتبرت ''الإرهاب النووي'' الخطر الفوري الأكبر الذي يواجه الولايات المتحدة وحلفاءها، بعد أن كان الخطر تجسده الدول التي تملك السلاح النووي في العقيدة السابقة، والسبب بحسب الرئيس أوباما هو سعي تنظيم ''القاعدة وحلفاؤها المتطرفون إلى التزود بالسلاح النووي''، وعليه فإنها المرة الأولى التي يكون فيها الهدف الأول للاستراتيجية النووية الأمريكية هو ''منع انتشار الإرهاب النووي''. ويبدو أنه على الرغم من المتغيرات العديدة، التي طاولت توجهات السياسة الخارجية للإدارة الأمريكية الجديدة، وذلك في سياق المراجعة الشاملة التي أجرتها هذه الإدارة فور وصولها إلى البيت الأبيض، إلا أنها لم تتمكن بعد من التخلص من آثار وتبعات مصطلح الإرهاب، وإن كانت قد تخلصت من استعمال مصطلح ''الحرب العالمية على الإرهاب'' البوشي، إلا أنها اجترحت مصطلح ''محاربة الإرهاب النووي'' كمقابل له. بالمقابل ما زال الإرهاب ماثلاً في عالم اليوم، ويتلون بألوان جديدة، حيث بدأ يتحدث بعضهم عن الإرهاب المعلوماتي بعد صعود نجم صاحب موقع ويكيليس الإلكتروني، ولا أحد يعرف تماماً ماذا سيكون عليه الإرهاب في طبعة العام المقبل 2011.
إنشرها