Author

هل تشتري الصين أوروبا؟

|
كاتب اقتصادي [email protected]
''إذا لم تُغير وجهتك، فسوف تنتهي في الوجهة التي تسير نحوها'' ليو توز فيلسوف صيني أحسب أنه لو كانت ألمانيا تُدار في القرن الـ21 بمبادئ وذهنية النازية، وسلوكياتها العنيفة، لقامت مستشارة البلاد أنجيلا ميركل، باحتلال كل دولة أوروبية، تطلب معونات مالية إنقاذية، لتفادي الانهيار الاقتصادي، بسبب الديون الحكومية التاريخية. فوفق المفهوم النازي، يكون الاحتلال ''أرخص'' من تقديم المساعدات، ويكون إلغاء الهويات الوطنية، أسهل من العمل الجماعي وصيانة الأمم، وتكون العنجهية الرخيصة، أوفر من التسامح الغالي والرفيع. لكن النازية، لم تعد في ألمانيا منهجاً، ولهذا السبب استبدلت ميركل (تلك المرأة الآتية من شرق ألمانيا، أو ألمانيا الشرقية سابقاً) السلوك النازي، بتوجيه اللعنات والإهانات والذل.. مع الأموال، إلى الدول الأوروبية الغارقة في الديون، على اعتبار أن ألمانيا هي الممول الأكبر لصندوق الإنقاذ الأوروبي، الذي يشبه صندوق الإنقاذ الأمريكي (بعد الأزمة الاقتصادية العالمية) مع فارق وحيد، هو أن هذا الأخير موجه لإنقاذ المؤسسات والشركات والمصارف، بينما ''الأوروبي'' مخصص لإنقاذ الدول، ومعها حكوماتها الهشة، سياسياً وشعبياً. في قلب هذا المشهد، يظهر بطل على الساحة، يمكن أن يقوم بدور (أو يحتل دور) المنقذين الأوروبيين للأوروبيين، ولكن من دون إهانات ولا إذلال ولا تهديد ولا وعيد. بطل ـــ في الواقع ـــ يقوم بالدور نفسه في الولايات المتحدة. بطل يمكنه أن يسدد الديون (ليس مجاناً بالطبع) بأعلى درجة من المعايير الاقتصادية العالمية. إنه الصين، ذلك المارد القادم من الشرق باتجاه الغرب، الذي استطاع ـــ حتى في عز الأزمة العالمية ـــ من تحويل مجرى الاقتصاد العالمي، من الغرب إلى الشرق. تَمكن هذا المارد الاقتصادي والبشري الهائل، من تحويل الأساتذة التقليديين للاقتصاد العالمي، إلى مجرد تلاميذ في مدارسه!. لماذا؟ لأن الصين استطاعت احتواء الأزمة بسرعة، وحققت نمواً كبيراً بلغ 10 في المائة، حتى في ذروة الركود. لقد باتت السرعة التي يخرج بها اقتصاد ما في هذا العالم من مطبات الأزمة، مؤشراً واضحاً لمدى قوة هذا الاقتصاد، وقابليته للاستدامة، ومرونته في أوقات المحن والمصاعب. وعلى العكس تماماً أصبح البطء في خروج اقتصاد آخر منها، علامة أكثر من واضحة، على أنه ليس ضعيفاً فحسب، بل يعاني ''موروثات'' اقتصادية، كانت حتى وقت قريب، جزءاً أساسياً من عظمته. بصرف النظر عن الجهود التي تبذلها الدول الأوروبية الكبرى ـــ وتحديداً ألمانيا ـــ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الدول الأوروبية السابحة في الديون، فإن الصين تبرز على الساحة، كمنقذة محتملة لهذه الدول، ليس نظرياً بل عملياً. أما لماذا عمليا؟ فلأن للصين تجربة تاريخية مستمرة مع الولايات المتحدة، كأكبر دولة دائنة لها (يقول الخبير الاقتصادي الأمريكي توم وينيفريث: إن أمريكا في الواقع مملوكة للصين)، ولأنها تمتلك احتياطيا هائلا من العملات (بلغ 2684 مليار دولار أمريكي في نهاية أيلول (سبتمبر) الماضي)، ولأن الإنقاذ الصيني يصب في مصلحة بكين نفسها. فالدفاع عن اليورو يخدمها، على اعتبار أن الاتحاد الأوروبي هو في الواقع شريك الصين التجاري الأول، وبذلك تضمن مواصلة شراء الأوروبيين للسلع والمنتجات الصينية، أو عدم اضطراب صادراتها إلى دول الاتحاد. ولأن الأمر في مصلحتها، فلا تخفي بكين توجهاتها في هذا الصدد، فقد أعلنت وزارة الخارجية الصينية رسمياً: ''أن أوروبا ستكون في المستقبل سوقاً رئيسة لاستثمار احتياطينا من القطع، وأننا مستعدون لمساعدة دول منطقة اليورو على تجاوز الأزمة المالية، والنجاح في انتعاشها الاقتصادي''. ولأن الأمر كذلك، أبدت الصين رغبة معلنة وقوية، في أن تسهم في صندوق النقد الدولي من أجل أوروبا. إذن.. يمكن للصين أن ''تشتري'' أوروبا، بما تملك من احتياطيات مالية ضخمة، حتى إن كانت هناك مخاطر. فالمخاطر الكبيرة تجلب عوائد كبيرة. وفي النهاية، فالضمانات الأوروبية هي من أجود الضمانات على الصعيد العالمي، وبالتالي فإن المخاطر ـــ إن وجدت ــ لن تتحول إلى مصيبة للدائن. وقد وجد أستاذ الاقتصاد في جامعة ''تسنغوا'' الصينية باتريك شوفانيك، أن الدور الجديد الذي يلعبه الصينيون، يوفر لهم فائدة على الصعيد السياسي، كما أن هذا الدور يتفق مع خطط بكين للتنويع. ويقصد هنا أن الصينيين سيصبحون أقل ارتباطاً بالدولار الأمريكي. وهذا صحيح إلى أبعد الحدود. فالتدخل الصيني في إنقاذ أوروبا من آثار ديونها، سيمنح بكين حصانة تسعى إليها، من الانتقادات الغربية (بل والهجوم الغربي في بعض الأحيان)، الموجهة لها، على عدة أصعدة، في مقدمتها، حقوق الإنسان والحريات، وطبيعة ومفهوم اقتصاد السوق في الصين. فنحن نعرف ـــ وخبرنا ذلك في أكثر من منطقة في العالم ـــ بأن المعايير الأخلاقية والإنسانية، تنزوي أمام المصالح الاقتصادية. وإذا كانت الصين ستقوم بدور المنقذ لأوروبا، فلا مانع من الاعتراف الأوروبي المطلوب، بطبيعة الحراك الاقتصادي الصيني، ولا مانع أيضاً أن ''تغضب'' الولايات المتحدة قليلاً ـــ أو حتى كثيراً ـــ من هذا الاعتراف، مع الإشارة إلى أن الصين اشترت في نهاية تشرين الأول (أكتوبر) الماضي سندات خزانة أمريكية بقيمة 907 مليار دولار، رغم أن عائداتها ضعيفة. وليسمح لنا المسؤولون في المفوضية الأوروبية، أن نتجاهل تصريحاتهم، التي يمررون من خلالها ''الأكليشيه'' الممل، بأن التدخل المالي الصيني، لن يكون مقابل موضــوعات أخـــرى قابلة للتفــاوض. في أعقاب الحرب العالمية الثانية، تدخلت الولايات المتحدة بمشروعها الشهير ''مشروع مارشال'' لإعادة إعمار أوروبا، ومع هذا المشروع احتلت مكانة الإمبراطوريتين الكبريين البريطانية والفرنسية، وإن تقاسمت النفوذ على العالم مع ''الإمبراطورية'' السوفياتية آنذاك. وفي خضم الحرب على الأزمة الاقتصادية العالمية، احتلت الصين بهدوء مركز ألمانيا كثالث أكبر اقتصاد عالمي، وبعدها بقليل احتلت ـــ بهدوء أشد ـــ مركز اليابان كثاني أكبر اقتصاد. وحسب دراسة لمؤسسة ''كونفرس بورد'' الكندية، التي وصفتها صحيفة ''الديلي تلجراف'' البريطانية الرصينة، بأنها تحظى باحترام كبير، فإنه يمكن للصين أن تتخطى الولايات المتحدة خلال عامين فقط، لتحل محلها كأكبر قوة اقتصادية في العالم، ليس من ناحية القيمة الدولارية، بل من جهة القدرة الشرائية. ومضت الدراسة أبعد من ذلك، حين حددت عام 2020 ليشهد تفوق الناتج الإجمالي الصيني على الناتج الأمريكي. وإذا ما أخذنا في الحسبان العوائد الضئيلة لشراء السندات (الديون)، أو المخاطر الناجمة عنها، فإننا لا نستطيع أن نتجاهل حقيقة أن للصين دوافع سياسية واستراتيجية على الساحتين الأوروبية والعالمية، أكثر منها دوافع مالية. لنضع المفارقات جانباً، خصوصاً فيما يرتبط بتدخل دولة نامية لإنقاذ دول متقدمة من الإفلاس. فالصين تسير بقوة لتكريس نفسها كقطب اقتصادي يناطح الولايات المتحدة، ويجني الكثير من ''الثمار'' السياسية والاستراتيجية. قطب يُغير ـــ حباً أو كرهاً ـــ المفاهيم الاقتصادية العالمية، التي كان الغرب حتى وقت قريب، ''يرجم'' كل من يمسها. هذا القطب هو الذي سيكون ''اقتطاعي'' النظام الاقتصادي الجديد المتُشكل عنوة. سيكون ''اقتطاعي''، بلا عنجهية أو تكبر، وبلا أحكام مسبقة. سيتعاطى من السوق كسوق، لا كمكان لـ''العبادة'' الاقتصادية، أو كساحة لـ''كهنوت'' اقتصادي مريب، كان يجرم المُستفسر عما يحدث، تماماً كما كان يجرم من يحاول الإصلاح!
إنشرها