Author

لتوطين الوظائف: حد أدنى من الأجور.. ورسم دخل على الأجانب

|
كنت قد كتبت منذ سنوات مقالا عنوانه ''من يدفع ثمن السعودة؟'' أشرت فيه إلى أن هناك تكلفة لتوطين الوظائف، إلا أنه لا أحد يرغب في تحمل أعبائها سواء كانت اقتصادية أو إنتاجية، ويبدو أننا مازلنا ندور في الدائرة المفرغة ذاتها من النقاشات والحوارات في قضية البطالة دون الاقتراب من جوهر القضية وموضوعاتها الحساسة، ليستمر الأطراف المعنيون في القطاعين العام والخاص يتقاذفون المشكلة فيما بينهم في محاولة للتبرؤ منها أو البراءة منها، دون الجرأة في التصدي لهذا التحدي الكبير الذي يواجه الدولة والمجتمع ويلقي بظلاله على المجتمع بإفرازاته السلبية التي طالت كل شيء! فالبطالة تكاد تكون السبب الرئيس وراء الكثير من مشكلاتنا الاجتماعية والاقتصادية والأمنية. لا أحد ينكر أن هناك نوايا صادقة وجهود كبيرة بذلت في التصدي لمشكلة البطالة، إلا أنه ومع الأسف معظم الحلول التي طرحت والخطط التي صيغت لم ترتق لمستوى المشكلة، فهي إما جزئية تتناول طرفاً من القضية وتترك جلها، أو آنية شكلية تعمل على التخفيف من وطأة المشكلة لكن لا تقتلعها من جذورها! وهكذا يمضي الوقت سريعاً في غير صالحنا لتتفاقم المشكلة وتكبر وتتعقد وتتشعب وتتحول إلى طود كبير يصعب التعامل معها. ما نفتقده هو النظرة الشمولية العميقة للمشكلة، وبالتالي لا يمكن بأي حال من الأحوال التعامل معها من منطلق قطاعي، حيث يتولى كل قطاع حكومي جزءا من المشكلة. من غير المنطقي الحديث عن توظيف العاطلين عن العمل دون الحديث عن النمو وتكبير الكعكة الاقتصادية، وإعادة هيكلة الصناعة في التركيز على الصناعات التحويلية، أي الصناعات التي توجد صناعات أخرى وتصنع رأس المال. بيت القصيد هنا هو توفير وظائف بدخول عالية تتناسب مع مستوى المعيشة في اقتصاد قوي مثل الاقتصاد السعودي. لكن كيف السبيل إلى وظائف ذات أجور عالية، وطبيعة الصناعات الوطنية استهلاكية بسيطة تعتمد على العمالة غير الماهرة بأجور تستهوي العمالة الأجنبية غير المدربة وليس المواطنين. والسبب أن العامل المواطن مثقل كاهله بالتزامات اجتماعية اقتصادية سببها تعدد الأدوار والمسؤوليات الاجتماعية التي لا تنتهي، فالفرد مطالب بالإعالة الشرعية والانصياع للتقاليد والأعراف التي تلزمه تحمل مسؤولية المنتسبين للأسرة الممتدة أو حتى القبيلة بأكملها، كما أن العيش باقتصاد ريعي ينعم بالرخاء يرفع سقف التوقعات لدى الباحثين عن العمل وتطلعاتهم في تحقيق احتياجاتهم من المسكن والمركب الجيد وتكوين أسرة بمستوى معيشي متوسط يماثل غيره من المواطنين. ولذا مشكلة البطالة التي نأمن من وطأتها والتي يبدو أن لا نهاية لها ليست بسبب أن عدد العمالة الأجنبية كبير وحسب، ولكن الأدهى والأمر أن الإنفاق الحكومي السخي والمتوالي والذي يفترض أن يسهم في نمو الاقتصاد الوطني وتحفيزه، يتسرب إلى الخارج عبر التحويلات النقدية الضخمة للعمالة الأجنبية ليكون تأثيره في أضيق الحدود، وهكذا يظل الاقتصاد على الرغم من الإنفاق الحكومي الضخم بكل المقاييس يراوح مكانه في دائرة ضيقة لا يستطيع معها استيعاب العمالة الوطنية خاصة المدربة تدريبا عاليا. المطلوب إذا تعريف أشمل للبطالة ومسبباتها، ومن أهمها أن رأس المال الوطني والتمثل في العوائد النفطية يصرف على مجالات الاستهلاك، وليس استثماره في قطاعات صناعية أصيلة تقود في نهاية المطاف إلى نمو الاقتصاد وتوليد الوظائف واستيعاب العمالة الوطنية، هذا إضافة إلى المنافع الاجتماعية والمتمثلة في معالجة كثير من المشكلات الاجتماعية مثل الإرهاب والسطو والمخدرات وجميع السلوكيات السلبية في الأماكن العامة. ولتحقيق ذلك، نحتاج لرؤية مستقبلية واستراتيجية وطنية واضحة المعالم تحدد الأولويات، وتخصص لها الموارد، وتطبق بالتزام كامل لتسهم في تحولنا إلى دولة صناعية منتجة تشارك في صناعة الحضارة العالمية. الحل الوحيد في توطين الوظائف هو ضمان حد أدنى للأجور للعمالة السعودية يمكنهم من استيفاء احتياجاتهم المعيشية. هكذا سينجذب الشباب للعمل، وأقول للعمل وليس للوظيفة، لأن المقصد هنا، هو تحفيز العمالة السعودية بجميع مستوياتها على العمل بجد واجتهاد وإبداع وانضباط ذاتي، والبحث عن الأفضل وتحقيق الإنجاز حتى يكون المنتج فعلا ''صنع في السعودية''. هناك أمثلة كثيرة أثبت خلالها الشباب السعودي جدارته وتفانيه في العمل، فشركة أرامكو السعودية وشركات سابك جميعها تجارب تقول وبصوت مرتفع امنح الشباب السعودي الفرصة والمكافأة المجزية (حقه!) وتحصل على الأفضل! هذه حقيقة تثبتها الدراسات والأبحاث في مجال الإدارة، فالموظف الذي لا تمنحه الوظيفة احتياجاته الأساسية، ينشغل عن التطلع لتحقيق احتياجاته العليا التي هي الدافع نحو تحقيق الإنجاز وتحقيق الذات والإنتاجية العالية. إن هذه التجارب الناجحة تؤكد أن مقولة ''مواءمة مخرجات التعليم لسوق العمل'' مقولة خاطئة، وإنما يرددها كثير من رجال الأعمال تفلتا من مسؤولياتهم الوطنية، والاستمرار في استنزاف الموارد الوطنية تحقيقا لمصالحهم الشخصية حتى ولو على حساب المصالح العليا للوطن. والحق هو ''مواءمة سوق العمل لمخرجات التعليم''، حيث يكون القطاع الخاص في مجالات الصناعة والتجارة والزراعة وغيرها بمستوى تقني عال يتناسب ومهارات ومعارف خريجي الجامعات والمعاهد. لكن تبقى ثمة مشكلة في تطبيق سياسة الحد الأدنى من الأجور وهو إلزامية تطبيقه على العمالة الوطنية الوافدة دون تمييز حسب التنظيمات الدولية للعمالة، ما يعني ارتفاع أجور العمالة بشكل عام، وبالتالي ارتفاع أسعار السلع والخدمات. وللتقليل من حجم الأضرار الناتجة من ذلك على سوق العمل، يتم فرض رسم على دخول العمالة الوافدة تساوي مقدار الزيادة في الدخل بعد تطبيق سياسة الحد الأدنى من الأجور لتبقى مستوى أجور العمالة الوافدة عند مستوياتها السابقة أو قريبة منها. دون إقرار سياسة الحد الأدنى من أجور العمالة الوطنية لن نفلح في الاستفادة من وفرة العمالة الوطنية الشابة المدربة. لقد حان الوقت للنظر إلى شبابنا العاطل عن العمل نظرة إيجابية وكميزة تفضيلية للاقتصاد الوطني، وليس مشكلة نرغب في التخلص منها بأي طريقة كانت حتى ولو توظيفهم في وظائف لا تتناسب مع مستواهم العلمي أو طبيعة تخصصاتهم ولا تمنحهم الأجر العادل. البطالة مشكلة وطنية ومعقدة وتتطلب قرارا وطنيا يتعدى حدود وصلاحيات وزارة بعينها، وهو أكثر من توفير وظائف وحسب، ولكن سياسة تضمن حد أدنى من الأجور كآلية لتوزيع الدخل لتتاح الفرصة لجميع المواطنين للاستفادة من الإنفاق الحكومي بدلا من تفرد رجال الأعمال والعمالة الوافدة بالنصيب الأكبر!
إنشرها