Author

لماذا الريبة في المراكز الطبية الخاصة؟.. السر في «عقد التأمين»

|
تعددت مصطلحات الخدمة التي من اختصاصها أن تقدم خدمة العلاج الطبي لأفراد المجتمع عبر قنوات عقود التأمين الصادرة من قبل شركات التأمين. كما يلاحظ على مصطلح خدمة العلاج الطبي تعدد مسمياته المتلونة كلٌّ على حسب اقتناعه أو وجهة نظر المكلف بتوفير خدمة العلاج الطبي ضمن نطاق المؤسسة التي يعمل تحت مظلتها، فمثلا أطلق الكونجرس الأمريكي على مصطلح الخدمة الطبية ''الرعاية الصحية''، وأطلقت عليها شركات التأمين في دول الخليج العربي عامة والسعودية خاصة ''التأمين الطبي''، وكما أطلق عليها مجلس الضمان الصحي السعودي ''الرعاية الصحية''. إن الضرورة الحتمية في توفير العلاج أو المتابعة الصحية للفرد، ناتجة من أهمية الفرد الذي هو جزء من تشكيل وتركيب هذا المجتمع الكبير، وإن سلامة المجتمع يرجع أساسها إلى سلامة الفرد الذي بدوره يسهم في تحقيق الناتج المحلي هذا من ناحية، وكذلك أيضا يسهم في تصميم طبيعة الهيكل الداخلي للاقتصاد العام وهذا من ناحية أخرى. مما لا شك فيه أن الجميع حريص على تقديم تلك الخدمة العظيمة، وأن تكون أيضا في متناول جميع أفراد المجتمع دون استثناء، لما لها من الأثر الإيجابي في الأمدين القصير والبعيد على صحة واقتصاد المجتمع، وما لها أيضا من انعكاسات إيجابية تساعد على تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي للدولة. وهناك تباين واضح في نطاق الخدمة الطبية المقدمة من بيوت الرعاية الصحية، والمتمثلة في المستشفيات الخاصة أو العيادات الخارجية الأهلية، بل هناك خدمات طبية متميزة وأخرى تكاد تسعف المؤمن له عند الحدود الدنيا من الخدمة الطبية المفترض أن تقدم للمريض عند حال مراجعته بيوت الرعاية الصحية، وإن استهجنت.. أو تساءلت عما هو سبب ذلك التمييز! ببساطة كانت الإجابة أن طبيعة عقد التأمين الطبي بين المؤمن (شركة التأمين) والمؤمن له (المؤسسة الطالبة للتأمين)، هو الذي جعل هذا التباين في نطاق التغطية الطبية من مؤسسة إلى أخرى أو من شخص لآخر ضمن المؤسسة الواحدة. قد أتعمد في بعض الأحيان أن أبدأ موضوعاتي برسالة أود نقلها إلى كل من لديه قرار، سواء في مؤسسته التي يمتلكها، أو كان رئيسا يعمل في منشاة اعتبارية، أو قد يكون مسؤولا لدى إحدى وزارات الدولة ويشغل منصبا.. يجب عليه أن يعمل وفق ما تمليه قدراته المهنية نحو خدمة المجتمع واقتصاد الوطن على حد سواء. ومن واقع المقدمة التمهيدية فإنها تعطي مدلولا واضحا بأن التأمين الطبي أو الصحي أو الرعاية الصحية أو سمها كما شئت من التسميات، بأنها لا تعطي خدمة أو رعاية صحية على قدر المسمى الذي يحمله عقد التأمين المبرم بين الطرفين، بل يتعدى الأمر إلى أكثر من ذلك، حيث تعمدت عقود التأمين الصحي ألا تتفق في غطائها التأميني المنصوص عليه في الشروط والأحكام المنصوص عليها في جسم الوثيقة من مؤسسة إلى أخرى في الدولة الواحدة، وإن صح القول بأنها تتباين في مستوى الخدمة الطبية المقدمة حسبما هو منصوص عليه في وثيقة التأمين، ذلك تبعا لاختلاف المفاهيم والأهداف والإمكانات المالية والتنظيمية والإدارية في المؤسسة أو المنشأة بنوعيها العامة والخاصة. ومن الملاحظ أيضا أن هناك شريحة كبيرة من المجتمع لا يتمتعون بخدمة العلاج الطبي التي تقدم عبر قنوات عقود التأمين الطبي الصادرة من قبل شركات التأمين، ويعود ذلك إلى الأسباب التالية: أولا: جزء من تلك الشريحة التي حُرمت من الحصول على خدمة التأمين الطبي نظرا لانضمامها إلى مؤسسات أو جهات ترفض تقديم خدمة العلاج الطبي للموظفين العاملين لديها، أو قد لا يسمح نظامها بتوفير تلك الخدمات عبر قنوات التأمين الطبي. ثانيا: الجزء الآخر من الشريحة هم العاطلون عن العمل، والمتقاعدون من القطاع العام والخاص، وكبار السن، والأرامل، والأطفال، إضافة إلى شريحة المتسببين الذين يجنون قوت يومهم حسب وجودهم في سوق العمل أو أثناء تنقلاتهم اليومية هنا وهناك. ثالثا: الشريحة التي تعولها بعض المؤسسات العامة لا يسمح نظامها بتوفير ميزة العلاج عبر قنوات التأمين الطبي. إذن كيف يحصل المجتمع على خدمة العلاج الطبي؟ وكيف ستتم تغطية أفراد المجتمع كافة بالرعاية الصحية دون أن يؤثر ذلك في اقتصاد الوطن، أو أن يحمل الدولة تكلفة العلاج الطبي؟ أو كيف نحقق التغطية الطبية المطلوبة لجميع أفراد المجتمع، وفي الوقت نفسه نحقق اقتصادا قويا يزدهر من خلال الازدهار الحاصل في صحة المجتمع؟ أثر الرعاية الصحية في التنمية الاقتصادية من واقع الحال، تتولى دور الرعاية الصحية العامة وبأنواعها وأحجامها التابعة لوزارة الصحة وعلى مستوى دول الخليج العربي، مسؤولية تقديم الرعاية الصحية لجميع أفراد المجتمع من المواطنين أو الوافدين إليها من مختلف دول العالم. وتقوم مؤسسات الرعاية الصحية في القطاع العام بتقديم الخدمات الصحية لجميع شرائح المجتمع وبغض النظر عن جنسية طالب الخدمة العلاجية، وبما أن خدمة العلاج الطبي الموفرة لشرائح المجتمع لا تتطلب إلا رسوما أو تكاليف مقابل العلاج المطلوب، ما ساعد على نسخ أو إلغاء فكرة التزام الدولة بتقديم خدمة العلاج الطبي وفقاً لوثيقة رسمية تلزم الدولة نفسها بذلك. كما ساعد ذلك أيضا على تقديم خدمة العلاج الطبي بشكل عادل تحقق من خلالها العدالة الاجتماعية بين جميع شرائح المجتمع وبمختلف مستوياتهم الاقتصادية والاجتماعية في حصولهم على الرعاية الصحية من دون قيد أو شرط. ويأتي دور التزام الحكومات أو الدول بتوفير الرعاية الصحية لأفراد المجتمع، من أهمية الفرد نفسه في مساهمته واعتباره العنصر المهم من عناصر الإنتاج الذي يدخل في عملية تحقيق التنمية الاقتصادية، وما ينطبق على العالم أجمع، ينطبق أيضا على دول مجلس تعاون الخليج العربي، حيث نلاحظ اهتماما واضحا ليس على مستوى تقديم الرعاية الصحية فحسب، بل كان الاهتمام بضرورة توسيع قاعدة نطاق خدمة الرعاية الصحية المقدمة للمجتمع، وذلك من خلال إلزام القطاعات الخاصة بتوفير الرعاية الصحية الكاملة لجميع العاملين لديها كطريقة مثلى لتغطية الرعاية الصحية لجميع شرائح المجتمع هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لمواكبة الرعاية الصحية أمام الزيادة في حجم الكثافة السكانية. وتعد تكاليف الإنفاق الصحي على أفراد المجتمع صورة من صور الاستثمار في رأس المال البشري، الذي من الضروري أن نحرص على توجيه أفراد المجتمع بغرض تأهيل الفرد بطريقة يكون فيها عنصرا مهما من عناصر الإنتاج المستخدمة في تحقيق الناتج المحلي. ولكن ماذا يحدث لو حصل تعثر في توجيه الإنفاق الصحي على شريحة من شرائح المجتمع، أو قد يحصل تدنٍ في مستوى الإنفاق الاستثماري (الصحي) على جميع شرائح المجتمع؟ باختصار، سيتحول الفرد أو المجتمع من عنصر منتج إلى حجر عثرة وعائق أمام تحقيق الطفرة التنموية المرجوة في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، أو قد يتسبب ذلك أيضا في تغيير مسار الهدف الذي يسعى إليه المجتمع من مسار تحقيق الرفاهية الاقتصادية الشاملة إلى مسارات تتخللها اضطرابات ومطالبات يتخبط فيها المجتمع من فترة إلى أخرى، ظنا منه أنه إصلاح وخطوة نحو البناء، أو إعطاء تصور خاطئ عن انخفاض نصيب الفرد من الناتج المحلي كان سببه هو الزيادة المضطردة في معدل الكثافة السكانية، وليس هذا فقط بل يتعدى الأمر إلى تشويش إدارات الدولة التخطيطية، ومن ثم التزامها وحرصها على توفير فرص عمل جديدة لمواجهة نسبة الزيادة المضطردة في الكثافة السكانية، إضافة إلى إيجاد حلول أخرى تماشيا مع الزيادة في أعداد السكان. مع الأسف الشديد، مثل هذه التصورات الخاطئة موجودة لدى جميع مجتمعات الدول النامية، وإن معدلات الإنفاق الاستثماري الصحي على أفرد المجتمع أقل بكثير من حجم الإنفاق الاستثماري الصحي الواجب تخصيصه لأفراد المجتمع في الوقت المناسب، وتدريجيا سيحمل أعباء توعك الاقتصاد المحلي على حجم الزيادة الحاصلة في الكثافة السكانية الموجودة في الدولة، حيث توصلت بعض الدول إلى وضع سياسات معينة للوصول إلى ترابط بين السكان والنمو الاقتصادي المطلوب، وذلك من أجل تحقيق التنمية المستدامة، وعلى سبيل المثال وليس الحصر وضع برامج الحد من الولادات، واعتبارها من مقتضيات التنمية الشاملة، وإسهام التعليم في تثقيف البنات عن تأخير سن الزواج كإحدى المميزات الدالة على زيادة رفاهية الأسرة، ولكن عند هذه الخطوات من العلاج قد ينحرف مسار التصحيح والابتعاد عن صلب المشكلة، ومن ثم الدخول في مضمار غير المضمار المستهدف. إذا كان معدل النمو السكاني ليس سببا واضحا في تعثر التنمية الاقتصادية، إذن مع تزامن ظاهرة الارتفاع في معدلات نمو السكان.. فكيف لنا أن نعلل ظاهرة اتساع الهوة بين انخفاض معدلات النمو في الناتج المحلي وانخفاض نصيب الفرد من الناتج المحلي لدى الدول النامية؟ وكيف لنا أن نتبنى فكرة ضرورة الإنفاق الاستثماري الصحي في تطوير مستوى ونوعية الرعاية الصحية المقدمة؟ وما علاقة شركات التأمين الطبي والقطاعات الخاصة كالصناعية والمالية وغيرهما من القطاعات بمساهمتها في تحقيق الجانب الأعظم من الإنفاق الاستثماري الصحي؟ أهمية برامج التأمين الطبي لا تتجاوز خبرة المملكة في التأمين الطبي ربع قرن، وهي بذلك خدمة حديثة التداول نسبيا في السعودية. وكانت تتسم تلك الخدمات بكفاية برامج الرعاية الصحية التي طورتها الدولة، سواء من حيث إنشاء المؤسسات الطبية والعلاجية الحديثة في مختلف أنحاء السعودية، أو من حيث مجانية الرعاية الصحية للمواطنين والمقيمين على حد سواء. وأسهم هذا الوضع في انعدام الشعور بالحاجة إلى هذا النوع من التأمين، ولكن مع زيادة العبء على المنشآت العلاجية الحكومية، وارتفاع تكلفة العلاج الطبي، وضخامة عدد المراجعين بما يتجاوز بكثير الإمكانات المتاحة لتلك المنشآت، أبرزت جميعها الحاجة إلى قيام بنية هيكلة صحية إضافية يتطلع بها القطاع الخاص إلى سد الاحتياجات المتصاعدة لبرامج رعاية صحية أكثر شمولية وتنوعا، ومن ثم برزت الحاجة إلى التأمين الطبي في السعودية. ويستفيد من برامج التامين الطبي جميع الشركات أو الأفراد العاديون، وهذه البرامج تحقق للمستفيدين من أصحاب المؤسسات والشركات عديدا من المنافع، فهي توفر رعاية صحية متميزة للعاملين وعائلاتهم، وتحدد للشركات تكلفة الرعاية الصحية مقدما، ومن ثم تختصر الجهود والمصاريف الإدارية المخصصة للرعاية الصحية، إضافة إلى توفير الرعاية الطبية داخل المملكة وخارجها باستخدام شبكة واسعة من المستشفيات والمؤسسات العلاجية. أما بالنسبة للعائلات والأفراد فبرامج التأمين الطبي تتيح لهم الاستفادة من خبرات شركات التأمين المتخصصة في إدارة المطالبات وضبطها، ومن ثم تقوم بتثبيت تكلفة الرعاية الصحية، والحصول على أسعار تنافسية، وتوسيع نطاق الاستفادة جغرافيا من المؤسسات العلاجية. فضلا عن نقل مخاطر ارتفاع التكاليف الطارئة لعلاج حالات مستعصية إلى شركات التأمين، فإن برامج التأمين الطبي تتيح الاستفادة من الإمكانات الهائلة للمنشآت الصحية الخاصة التي لا تزال تعمل أقل بكثير من طاقتها التشغيلية المتاحة، مع إمكانية الاستفادة من طاقات المستشفيات الحكومية واستغلالها بأسلوب اقتصادي يسمح بتقديم خدمة متميزة للمراجعين، مع الحصول على المقابل المادي لتلك الخدمة، الذي يمكن استغلاله في تطوير إمكانات أداء تلك المستشفيات ومستوياتها. واقع التأمين الطبي في المملكة يحتل التأمين الطبي المرتبة الثانية بين أنواع التأمين الأخرى في سوق التأمين السعودي بعد تأمين السيارات. وقد حقق التأمين الطبي أعلى معدل نمو في السوق خلال فترة وجيزة، ويرجع ذلك إلى أسباب عدة، أهمها: ــــ زيادة الاعتماد على الخدمات الصحية المقدمة من القطاع الصحي الخاص. ــــ طرح برامج التأمين الطبي المخصصة للأفراد والعائلات جنبا إلى جنب مع برامج الشركات. ــــ إضافة إلى إقرار مجلس الوزراء السعودي بتطبيق نظام التأمين الصحي التعاوني الإلزامي على المقيمين في المملكة الذين يقدر عددهم بملايين عدة. ــــ الارتفاع المطرد في مستوى وعي الجمهور بأهمية التأمين الطبي والمنافع المترتبة عليه. ــــ القرار الذي أصدره مجلس الوزراء السعودي لتطبيق نظام الضمان الصحي التعاوني على المقيمين يعد نقلة حضارية جاءت في الوقت المناسب؛ لأنها ستخفف عبء الرعاية الصحية عن كاهل القطاع الصحي الحكومي. ــــ يدعم التوجه الحالي نحو الاعتماد على القطاع الصحي الخاص في تقديم الخدمات الصحية للعاملين في الشركات والمؤسسات الخاصة، والرفع من مستوى الخدمات الصحية المقدمة من قبل القطاعين العام والخاص، والاستفادة من مصادر تمويل غير حكومية لتطبيق النظام، ما سيؤدي إلى الارتقاء بالخدمات الصحية كما ونوعا. على الرغم مما حققه التأمين الطبي من نقلة ونمو سريع في السوق الخليجية عامة، وفي السوق السعودية خاصة، إلا أننا لم نلاحظ تقاربا بين معدلات النمو في التأمين الطبي وحجم استفادة أفراد المجتمع من تطبيق نظام الضمان الصحي التعاوني، حيث كان المستفيد من تطبيق الضمان الصحي التعاوني، هو ـــ في الغالب ـــ شركات التأمين والمراكز الطبية، حيث الأسباب التالية كانت وراء تدني وعدم تقديم الرعاية الطبية لأفراد المجتمع أو المؤمن عليهم بالصورة المطلوبة: عدم وجود جهات إشرافية تتولى مهمة مراقبة شركات التأمين من حيث القدرات المالية والفنية والإدارية، ما يؤهلها لتقديم الخدمة على الوجه الصحيح. كما أن نجاح تطبيق النظام الصحي الجديد لم يتكفل بتضامن أطراف العملية التأمينية، وهم الأفراد المؤمن عليهم، وشركات التأمين التي توفر التغطية التأمينية، والمستشفيات والمراكز الصحية التي تتولى تقديم الخدمات الصحية والعلاجية، والجهات الإشرافية التي تتأكد من تقديم الخدمة على الوجه الصحيح. كما أن المنافسة في سوق التأمين الطبي في المملكة حادة للغاية، حيث تتعدد أطرافها لتشمل شركات التأمين العاملة في الخارج، التي اجتذبتها السوق السعودية بسبب إغراءات أقساط التامين الطبية أو توفر الإمكانات المالية بداخله. ولجهل تلك الشركات بأوضاع السوق ومتطلباتها، تعمد إلى الالتزام بأسعار غير مكافئة للأخطار المشمولة، وسرعان ما ينتهي بها الأمر إلى الانسحاب بعد أن تلحق بها خسائر لا تقوى على احتمال استمرارها لتأتي شركات أخرى وتعاود الكرة من جديد. كما تشمل المنافسة أيضا بعض المستشفيات والمستوصفات التي تحصل على أعمال كبيرة عن طريق الإغراء بتقديم أسعار مخفضة، ومشكلة السوق تتركز في تفضيل عديد من الشركات شراء التأمين بالنظر إلى السعر فقط دون النظر إلى طبيعة الخدمة المقدمة أو مستوياتها، التي يفترض أنها في الأساس الدافع الرئيس وراء شراء التأمين الصحي. بعد البدء في تطبيق إلزامية التأمين الطبي على المقيمين، اشتعلت المنافسة بصورة كبيرة بين شركات التأمين، لأن الكثير من الشركات تحرص على الحصول على أكبر نصيب من اشتراكات السوق. كما تعاني سوق التأمين الطبي في المملكة معضلات عدة تعوق انطلاق نشاط التأمين بشكل عام، أهمها الافتقار إلى المعايير والقواعد التي تحكم أطراف العلاقة في نشاط التأمين الطبي، وهم شركة التأمين، والعملاء، والمستشفيات والمراكز الطبية التي توفر الرعاية الصحية، وغياب جهة إشرافية ورقابية على الشركات العاملة في مجال التأمين الطبي، وإن أداء معظمها لا يرتقي إلى المستوى الذي يواكب الارتفاع الملحوظ في مستوى الوعي بالتأمين الطبي. وتعاني سوق التأمين الطبي أيضا المبالغة في الخدمات الصحية، خصوصا استخدام التقنية التشخيصية الباهظة التكاليف في غير حاجتها، نتيجة المنافسة بين المستشفيات الرئيسة، وهذا كله انعكس على زيادة تكاليف العلاج، والمطلوب تسديدها من قبل شركات التأمين، لأن المستشفيات والمراكز الطبية مضطرة إلى تشغيل تلك الأجهزة والاستفادة منها ماديا. كما أن هناك أيضا مشكلة متعلقة بالعلاج خصوصا الأدوية، حيث يصفها بعض الأطباء في بعض المستشفيات بالأعلى ثمنا بين الأدوية رغم وجود البديل الأرخص، وهذا أيضا سيسهم في رفع التكلفة. حصة المجتمع من التأمين الطبي على الرغم مما حققه التأمين الطبي من نقلة ونمو سريع في السوق السعودية، إضافة إلى التوجه الحالي نحو الاعتماد على القطاع الصحي الخاص في تقديم الخدمات الصحية للعاملين في الشركات والمؤسسات الخاصة، إلا أنه لا يغطي سوى 17 في المائة من السعوديين العاملين في القطاع الخاص. أما بالنسبة إلى مستوى الخدمة الطبية التي يتلقاها الفرد فلم تحظ أيضا بالمستوى المطلوب التي سعت وراءها الدولة عندما شجعت القطاع الطبي الخاص على تقديم الرعاية الطبية من خلال شركات التأمين، حيث كشفت دراسات عن أن 70 في المائة يرون تكاليف العلاج لدى القطاع الطبي الخاص مكلفة وباهظة الثمن، وأن 80 في المائة من أفراد المجتمع يرون أن القطاع الصحي يحمِّل المريض تكاليف علاجية غير ضرورية. وليس هذا فقط وإنما كشفت الدراسة عن أن 40 في المائة يتوجهون إلى القطاع الصحي الحكومي بسبب عدم ثقته بجودة الخدمات الطبية في القطاع الصحي الخاص. إذن كيف نتوصل إلى معرفة حصة المجتمع من الرعاية الصحية المقدمة من خلال قنوات التأمين الطبي الخاص؟ لكي نجيب عن هذا السؤال فلا بد من التطرق إلى طبيعة عقد التأمين الطبي، وما تقدمه تلك العقود من خدمات طبية للمؤمن له، إضافة إلى تحديد شرائح المجتمع التي تتمتع بالتأمين الطبي، عندها سنتمكن من معرفة حصة المجتمع من الرعاية الصحية المقدمة من خلال قنوات التأمين الطبي، وليس هذا فقط بل سنتوصل إلى مدى ضرورة إعادة النظر في طبيعة وحجم الخدمات الطبية التي تقدمها عقود التأمين الطبي، إضافة إلى معرفة مدى أهمية وجود هيئات عامة مكلفة من قبل الدولة التي تتبنى متابعة ومراقبة نظام الرعاية الصحية الإجباري على أفراد المجتمع. أولا: حجم الخدمة الطبية في عقد التأمين الطبي في عقد السبعينيات من القرن الماضي، وبالتحديد مع بدايات الطفرة الاقتصادية التي شهدتها المملكة، ومع تزايد متطلبات الشركات الخاصة وحاجتها الماسة إلى الأيدي العاملة، ما دفعها إلى إضافة مميزات أخرى تضاف إلى الأجر الأساسي الممنوح للموظفين لغرض تشجيع واستقطاب ذوي الخبرة والكفاءات لانخراطهم في المؤسسات والشركات الخاصة، ومن هذه المميزات كانت إضافة ميزة تغطية العلاج الطبي، وتحمل رب العمل مصاريف العلاج للموظف، إضافة إلى تكاليف من يعيلهم من أفراد عائلته. وفي بداية الأمر، التزمت الشركات الخاصة بتعويض موظفيها عن كل تكلفة تحملها الموظف لقاء تلقيه العلاج الطبي، دون التحقيق مع الموظف أو مراجعة تكلفة العلاج خشية أن يترك العمل ويبحث عن عمل آخر يمنحه مميزات علاجية أكبر تدعم مستوى دخله العام. وكانت شركات القطاع الخاص تتكفل بجميع أنواع العلاجات الطبية بغض النظر عن نوع وتكلفة العلاج المحددة من قبل المؤسسات الصحية، واستمر هذا الحال لمدة طويلة، حتى ظهرت النواة الأولى لشركات التأمين في منطقة الخليج التي بدورها بدأت بحملاتها التسويقية في تقديم الخدمات التأمينية للشركات والمجموعات التجارية التي تبحث عن جهة تتحمل بالنيابة عنها أخطار تكاليف العلاج الطبي، إضافة إلى التكاليف الإدارية الناتجة من إجراءات متابعة العلاج، وصولا إلى الخطوات المحاسبية الخاصة بصرف قيمة التعويض. ومع انتشار شركات التأمين في المنطقة، إضافة إلى ارتفاع تكاليف العلاج التي أصبحت تثقل كاهل قوائم الحسابات الختامية للشركات الخاصة، كانت مصاريف العلاج الطبي أحد الأسباب التي أدت إلى ارتفاع التكاليف التشغيلية، وكذلك كانت سببا في انخفاض في معدلات الأرباح المحققة، وكل ذلك شجع الشركات الخاصة على الاستماع والانصياع إلى النشرات الترويجية الصادرة من قبل شركات التأمين التي بإمكانها أن تتكفل بكل تكاليف خدمات الرعاية الطبية، بما في ذلك العمل على تقديم دراسات حول أسباب ارتفاع أسعار الخدمات العلاجية، ومن ثم العمل على تخفيضها، وفي المقابل أن تدفع الشركات الخاصة اشتراك التأمين سنويا لقاء توفير الرعاية الصحية للموظفين. وبهذا بدأت عملية الاتفاق غير الظاهرة والمبطنة بين الشركات القطاع الخاص وشركات التأمين لغرض تحقيق أقل تكلفة تتحملها الشركات الخاصة، وفي المقابل تجني شركات التامين أكبر قدر ممكن من الأرباح، وهذه المعادلة لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال تحديد حجم التغطية التأمينية المراد تقديمها للموظفين، بحيث كلما وسع نطاق العلاجات المستثناة من التغطية التأمينية، ساعد ذلك على تخفيض تكاليف التأمين على الطرفين (شركات التأمين وشركات القطاع الخاص)، لكن من ناحية شركات التأمين ستكون الأكثر انتفاعا عند تخفيض تكاليف التغطية التأمينية، لأن من هذه الميزة ستتمكن شركة التأمين من مضاعفة أرباحها بمقدار مرتين أو أكثر، وأما ما يخص الموظف سيتحمل تكاليف العلاج غير المغطاة تأمينيا من دخله الخاص، وما يترتب على ذلك من انخفاض في مستوى دخل الفرد، وبالتالي ستصب هذه الظاهرة في خانة عدم الاهتمام بالاستثمار الصحي للعنصر البشري. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، حيث تقوم شركات التأمين بتشديد الرقابة على المؤسسات العلاجية، وذلك باتباع أسلوب عدم التصريح للمستشفيات والعيادات الخاصة بعلاج المؤمن لهم (الموظفون) حتى تتم دراسة الحالة من قبل شركات التأمين للتأكد من أن الحالة المطلوبة للعلاج مغطاة تأمينيا أو غير مغطاة، وفي حالة موافقة شركة التأمين على العلاج، عندها سيتم التصريح للمستشفيات والعيادات بعلاج المؤمن له (الموظف)، لكن هذا الأسلوب المتبع في تقديم الخدمات العلاجية سينعكس سلبا على مستوى الخدمة الطبية المقدمة للمؤمن له، لأن عملية تأخير الموافقة على العلاج وعدم صبر المريض على تحمل أوجاع وآلام المرض، سيضطره إلى اتخاذ قرار علاج حالته المرضية من دخله الخاص قبل أن تصل موافقة شركة التأمين على العلاج. وأما الجوانب السلبية الأخرى من هذا الإجراء فهي كالآتي: ــــ انخفاض في مستوى الرضا الخدمي الصحي المفترض أن يقدم للمريض. ــــ انتقال التأمين من مفهوم الصناعة الدافعة للاقتصاد، إلى مفهوم النشاط التجاري، وهذا بلا شك سيتسبب في شرخ في هيكل الاقتصاد المحلي. ــــ استنزاف شركات التأمين للقطاع الخاص من خلال طرح برامج تأمينية غرضها الرئيس هو تحقيق عوائد مالية بغض النظر عن إن كانت تصب في مصلحة المؤمن له أم لا. ـــ عملية الاتفاق المتبادل بين مصالح شركة التأمين وشراكات القطاع الخاص (الطالبة للتأمين)، ساعدت على نقل مشكلة ارتفاع تكاليف العلاج التي كانت تعانيها شركات القطاع الخاص إلى الموظف نفسه، لأنه من خلال مبدأ توسيع قاعدة الخدمات الطبية المستثناة من وثيقة التأمين، سيجبر الموظف على تخصيص جزء من دخله الخاص على العلاجات المستثناة تأمينيا أو البحث عن مصادر علاجية أخرى تكفل علاجه بالمجان، وهذا لن يتم إلا من خلال المؤسسات الطبية الحكومية، وفي كلتا الحالتين تحقق لشركات التأمين الأرباح المضاعفة، أما من ناحية شركات القطاع الخاص فقد تمكنت من تخفيض تكاليفها التشغيلية. ثانيا: شرائح المجتمع التي تتمتع بالتأمين الطبي إذا كانت إحصائية عدد الأفراد المؤمن عليهم من كلتا الشريحتين من المواطنين أو المقيمين في المملكة غير دقيقة لحد ما، فإن من السهل جدا تحديد نسبة السعوديين تحت مظلة التأمين الصحي والعاملين ضمن مظلة القطاع الخاص، حيث إن نسبتهم لا تزيد على 17 في المائة من إجمالي السعوديين العاملين في القطاع الخاص. تعد عملية تحديد شرائح المجتمع غير الخاضعة لمظلة التأمين الصحي ضرورية، لأنها خطوة أولى من الخطوات المهمة للبدء بعملية التغطية الشاملة للرعاية الصحية، ومن هذه الشرائح التي لا تتمتع بالتأمين الطبي: شريحة المتقاعدين من القطاع الخاص، وعدم تبني المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية برامج التأمين الطبي للمشتركين لديها بعد إحالتهم للتقاعد، شريحة المتقاعدين من القطاع العام، وعدم تبني المؤسسة العامة للمعاشات والتقاعد برامج التأمين الطبي للمشتركين لديها قبل وبعد إحالتهم للتقاعد، شريحة العاطلين عن العمل والأفراد المتسببين والأرامل والمسنين والشيوخ غير المسجلين لدى مصلحة الضمان الاجتماعي، شريحة المسجلين لدى مصلحة الضمان الاجتماعي، شريحة الأفراد الذين يعملون في مؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وضعف الجهاز الرقابي العام (مجلس الضمان الصحي) في السيطرة على تلك المؤسسات. ونظرا لأهمية نشر الرعاية الطبية من خلال برامج التأمين الطبي جعل الدول المتقدمة وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، تتبنى مشروع الرعاية الصحية ووضع الخطوات أو المنهاج في كيفية تغطية جميع أقطاب المجتمع قبل أن تقذف هذه الظاهرة بآثارها وحممها السلبية بدءا على الناتج المحلي، ومن ثم على حطام هيكل الاقتصاد ككل. كما أن ضرورة تحديد شرائح المجتمع غير الخاضعة للتأمين الطبي لم تكن لغرض الكشف عن حجم الفجوات التي يعانيها المجتمع فحسب، لكن كخطوة من الخطوات المهمة للتنبيه على وجود خلل لا بد من علاجه قبل أن تصب هذه المشكلة بسمومها على الأجيال القادمة وعلى هيكل الاقتصاد العام.
إنشرها