Author

الحكومات والأزمة .. وجها لوجه

|
في 15 من أيلول (سبتمبر) 2008م بدا أن حدثا ما سيغير وجه التاريخ الاقتصادي، وسيشل أركانه، وسيجعل الجميع يعيدون حساباتهم، وأقول الجميع بلا استثناء، حكومات وشركات وبنوك وأفراد، الكل بلا استثناء. ذلك اليوم سيبقى عالقا في ذاكرة كل شخص، خصوصا في الدول المتقدمة، وهو تاريخ انهيار ليمان برذرز. الاقتصاد العالمي بدا وكأنه توقف فجأة عن التنفس، مما استدعى عملية إنعاش وتنفس صناعي سريع جدا لإصلاح ما يمكن إصلاحه. التنفس عاد بعد عمليات متكررة للإنعاش، ولكن النفس لم يعد إلى وضعه الطبيعي، حيث بدا أن هناك تهتكا كبيرا في رئة الاقتصاد العالمي، وهو الاقتصاد الأمريكي. وبسبب هذا التهتك في رئة الاقتصاد العالمي، بدأ أداء الأعضاء الأخرى في الاقتصاد يتراجع، بل وبدا أن هناك مشاكل أخرى وكبيرة كانت مخفية لفترة طويلة. أول هذه الأجزاء ما يحدث حاليا في أيرلندا وعدد من الدول الأوروبية الأخرى، كإسبانيا والبرتغال واليونان، حيث تواجه حكومات هذه الدول مخاطر متزايدة؛ لعدم قدرتها على سداد فوائد الديون التي تحملتها خلال السنوات الأخيرة. هذه الأزمة والوضع الحالي الذي نتج منها يثير لدي الكثير من التساؤلات حول الدور الذي يجب أن تضطلع به الحكومات في إدارة الاقتصاد. ما حدود هذا الدور؟ وكيف يمكن أن يوضع في إطاره الصحيح؟ كيف تؤثر السياسات التي تتبناها الحكومة في مستقبل الاقتصاد؟ وكيف يمكن للحكومة أن ترتب أولوياتها من حيث الإنفاق الحالي وتبعات ذلك على الأجيال القادمة؟ كيف يمكن أن تؤدي بعض السياسات – كسياسات وقوانين أسواق العمل - إلى تدمير الحافز الإنتاجي لدى الأفراد؟ وكيف يمكن أن نحدد متى وكيف وإلى أي حد يمكن للدولة أن تتدخل في النشاط الاقتصادي؟ كيف يمكن أن نجعل السياسات الحكومية والقوانين تشجع ليس على الإنتاج فقط، ولكن على الإبداع؟ السياسات الحكومية الاقتصادية غير المدروسة وغير القائمة على أسس صحيحة ترتبط كثيرا بالنتائج التي وصل إليها الوضع في اليونان، وحاليا في أيرلندا وإمكانية تأثير ذلك على الوضع في إسبانيا والبرتغال. فتوسع الحكومات في الإنفاق خلال عدة سنوات دون وجود قاعدة إيرادية وإنتاجية تدعم هذا التوسع، أو تحفيزها لقطاعات معينة من خلال رفع الكثير من القيود القانونية التي تنظم استثمارات القطاع الخاص فيها كالقطاع المصرفي، أو تبنيها لسياسات متشددة سواءً في قطاع العمل، أو متراخية في مجال الإعانات، أو السياسات الاقتصادية الأخرى التي تؤدي إلى تشويه الاقتصاد وتسبب خللا في نظام الحوافز الاقتصادية الكفؤة، كل هذه الجوانب قد تؤدي إلى نتائج قد لا تحمد عقباها، كالتي تشهدها حاليا القارة الأوروبية. لنأخذ الوضع في إسبانيا على سبيل المثال وهي خامس اقتصاد في القارة الأوروبية، حيث تلعب الدولة دورا كبيرا في إدارة عجلة الاقتصاد، وتمثل الوظيفة الحكومية عنصر الجذب الأول بين الباحثين عن الوظائف. فسياسات سوق العمل التي وضعتها الحكومة قللت من حافز الإنتاج لدى المواطن، وبلغت درجة لا يمكن تصورها، حيث يمكن أن يحصل العامل على بدل بطالة عند فقده عمله قد تصل مدته إلى عامين وبما نسبته 70 في المائة من الراتب الشهري الأخير للموظف. هذا حدا بالكثير من الإسبان الذين يرغبون في التوقف عن العمل بعد سنوات لانتظار (أو افتعال) سبب لطردهم من العمل وللتمتع بعدها بإجازة طويلة من العمل. وهذا يفسر إلى حد كبير وجود أكثر من خمسة ملايين عاطل عن العمل في إسبانيا، بما يمثل عبئا كبيرا على الدولة، وعلى الأجيال الشابة التي لا تجد فرصة لها في التقدم والحصول على فرص العمل بسبب عدم مرونة سوق العمل. وهذا الأمر أدى إلى وضع خطير لدى الشباب، وهو أن البطالة أصبحت أمرا طبيعيا لدى الكثير من الشباب الإسبان، بل إن عائلات بأكملها أصبحت عاطلة عن العمل، وتعيش على بدل البطالة الذي توفره لها الدولة، وهو ما يعني أن البطالة أصبحت هيكلية، أي أن هؤلاء العاطلين عن العمل سيكون من الصعب جدا إعادتهم إلى العمل، حتى مع توافر الفرص؛ لافتقادهم مع الوقت المهارة والرغبة فيه. في أيرلندا التي تشهد مخاطر عدم قدرتها على سداد التزاماتها تجاه المقرضين، الوضع مشابه لإسبانيا من حيث جذور المشكلة الرئيسة. هي ليست في الإقراض الزائد عن طاقة المقرضين، أو في عدم رغبة الناس في الإنتاج، لكنها مشكلات نتجت من مشكلة رئيسة، وهي سياسات حكومية رديئة. في أيرلندا مثلا، لا تفرض الحكومة ضريبة على الممتلكات، وهو ما شجع الكثيرين من الأفراد على امتلاك منازل، ليس واحدا فقط، ولكن أكثر من منزل؛ نظرا لأنها أصبحت مخزنا جيدا للقيمة يدر عائدا مجزيا على مدى الزمن. النتيجة، توسع في الإقراض لتمويل الطلب المتزايد على المنازل، وانهيار سوق المنازل بعد ذلك أدى إلى تراجع قيمتها بمعدل النصف، وتخيل عندما يخسر الاقتصاد نصف قيمة الأصول العقارية لديه. البطالة في أعلى معدلاتها حاليا في أيرلندا بسبب هذه الأزمة، والنتيجة قرابة 30 ألف شاب هاجروا للبحث عن عمل في الدول الأخرى. قد يظن البعض أن هذا شيء إيجابي، لكن على العكس من ذلك، فعندما تخسر دولة ما شبابها اليافع لينتجوا في دولة أخرى، وليدفعوا الضرائب في دولة أخرى، وليساهموا في تمويل نظام التقاعد في دولة أخرى، فلك أن تتصور أي مستقبل ينتظر هذه الدولة المسكينة التي خسرتهم. النقطة الرئيسة التي أود التأكيد عليها هنا، هي أن سياسات الحكومة وأنظمتها وتشريعاتها تلعب دورا كبيرا في توجيه الاقتصاد. ولا ضير في بذل المزيد من الموارد والجهد من أجل وضع وتصميم سياسات اقتصادية قادرة على حفز الموارد الاقتصادية وتوجيهها الوجهة الصحيحة بما يعزز الإنتاج والنمو الاقتصادي، وفي الوقت نفسه يقلل من مخاطر حدوث أزمات اقتصادية مستقبلية. يجب أن نتعلم من الآخرين، وأن نستثمر اليوم في وضع برامج وسياسات وتشريعات تسهم في حفز قدرات اقتصادنا الوطني بما يكفل حياة كريمة للأجيال القادمة.
إنشرها