Author

أسباب نجاح موسم الحج

|
تم بحمد الله نجاح خطة حج هذا العام الذي شهد أكبر تجمع بشري في تاريخ مواسم الحج. وقد قضى الحجاج مناسكهم وهم ينعمون بمزيد من الأمن والأمان، وفي ظل رعاية شاملة ووسط منظومة من الخدمات المتميزة، دون وقوع أية حوادث مرورية أو أمنية، أو صحية. فالحمد لله الذي وفق البلاد لهذا النجاح، ونسأله تعالى أن يتقبل من حجاج بيته الحرام نسكهم، وأن ييسر لهم عودتهم لأوطانهم سالمين فائزين برضوانه وغفرانه. لا شك أن ما تبذله هذه البلاد من جهود سنوية متلاحقة لخدمة هذه الحشود المتزايدة من حجاج البيت العتيق، بكل ما يتطلبه ذلك من تجنيد آلاف القوى البشرية المدربة لتوفير الرعاية الأمنية، وتقديم مختلف الخدمات الصحية والبلدية، وتلبية حاجاتهم المباشرة في النقل والإعاشة والإسكان من حين لحظة وصولهم حتى مغادرتهم، فضلا عن تفويج وتنقل هذه الحشود في وقت واحد.. أقول لا شك أن توفير كل هذه الخدمات يقتضى بذل جهود إدارية كبيرة، واستنفار قوى بشرية كافية، يتم تحفيزها سنويا معنويا وماديا في جميع القطاعات لتبقى دائما على مستوى عال من اليقظة والتفاني في العمل؛ تعلقا بشرف المهمة وأملا في الثواب الأخروي. وعلى الرغم من الجهود الجبارة التي تبذل لخدمة هذه الحشود، فإن جميع المسؤولين والعاملين في خدمة الحجيج يعلمون أن التحدي الذي يواجههم لم يعد توفير هذه الخدمات، بل كذلك رفع مستوى جودتها وتحسينها عاما بعد آخر. ولذا تستنفر جميع أجهزة الدولة لتكون على أهبة الاستعداد مع بواكير وصول الدفعات الأولى من الحجاج. وفي الوقت نفسه، تخضع هذه الأجهزة لبرامج رقابة صارمة أثناء قيامها بمسؤولياتها من خلال فرق عديدة لديها جداول ومسارات عمل ومعايير تثبُّت ومراجعة، وصلاحيات للتأكد من التزام هذه الأجهزة بجميع الضوابط والإجراءات التي تضمن تحقيق جودة الخدمة وإتقانها. ولقد كان من أجمل ما علمت عنه هذا العام هو قيام الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان بتكوين فريق عمل برئاسة أحد أعضاء مجلس الشورى؛ لمواكبة حجاج بيت الله الحرام في مكة المكرمة والمشاعر المقدسة، متنقلا معهم؛ وذلك للوقوف على الخدمات المقدمة للحجاج، ومراقبة تلك الخدمات الميدانية ومستوى كفاءتها في مؤسسات الطوافة وحملات الحج والأجهزة التنفيذية الأخرى كالمستشفيات، ومراكز توزيع الماء، ونحوها من المراكز الخدمية. بعض هذه الجهود تظهر للحجيج، وبعضها الآخر يخفى عليهم، لكنهم يلمسون نتائجه. وفي كلتا الحالتين فإنهم يحمدون لكل مخلص جهده بعد أن يلمسوا مقدار العناء المبذول ويسألوا المولى لهم حسن الجزاء والثواب. هل جربت أن تقف في مناطق كثيفة الحشود كمنطقة رمي الجمرات أو صحن الطواف حول الكعبة الشريفة تؤدي دورا توجيهيا أو خدميا بين جماعات مختلفة المشارب واللغات والسلوك؟ هل تصورت الجهود التي تتطلبها إعاشة ورعاية وإسكان ونقل أعداد كبيرة من البشر؟ أو تأملت استنفار الأجهزة الطبية لخدمة جموع متجددة لا تنتهي من المرضى؟ حيث شارك نحو 19 ألف طبيب وكادر طبي وفني في تقديم الخدمات الصحية. هذا من حيث الظاهر، أما الجهود التي لا يُرى منها سوى نتائجها، فأهمها الجهود الأمنية. فهناك رجال في جهاز الأمن العام يرابطون في غرف مراقبة وتحكم دقيقة وعالية التقنية مرتبطة بشبكة واسعة من آلات التصوير التي تغطي منطقة الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة. وبإمكان هذه الآلات تقصي حركة وتصرف وموقع كل شخص، بل بإمكان عدسات هذه الآلات أن تتجه، من خلال وضع صورة المشتبه بهم في أجهزة الحاسوب المرتبطة بهذه الكاميرات، مباشرة لوجه الشخص المعنى فتحدد مكانه ضمن الحشود مهما كانت كبيرة، وترصد وتوثق طبيعة المخالفة التي يقوم بها. فمثلا هناك 408 كاميرات على جسر رمي الجمرات؛ لضمان إدارة الحشود البشرية بكفاءة عالية، وتطبيق الخطط وتوزيع الكثافة البشرية على الأدوار المختلفة وتحويلهم من دور إلى آخر. كذلك فقد تم تجهيز كل مخيم بشاشة كبيرة ومستقبل خاص تعمل به أربع قنوات خصصت القناة الأولى للبث المباشر لمنطقة الجمرات لإعطاء الحجاج تصورا عن مستوى الكثافة بمنشأة الجمرات والمنطقة المحيطة بها، بينما تعمل القناة الثانية باللغتين العربية والإنجليزية، فيما تم تخصيص القناة الثالثة للأفلام التوعوية، بينما تعمل الغرفة الرابعة والأخيرة لقياس كثافة أعداد الحجاج بمنشأة الجمرات بشكل لحظي ومقارنتها بالعدد الإجمالي للحجاج؛ وذلك لمعرفة ما تبقى من الحجاج على نحو تقريبي. وعلى الرغم من استمرار طول وقت انتقال بعض الحافلات من عرفات إلى مزدلفة (نحو خمس ساعات)، إلا أن الحركة المرورية هذا العام شهدت متغيرات أساسية عدة أسهمت في تحسين الحركة وتراجع معدلات الزحام. ومن أبرزها دخول قطار المشاعر الخدمة، والتوسع في النقل الترددي ليضم حجاج مؤسسة إفريقيا غير العربية، إضافة إلى قرار منع دخول المركبات دون 25 راكبا إلى المشاعر لتقليص معدل الحافلات إلى 30 ألف حافلة. فقد أدى تشغيل مشروع قطار المشاعر للاستغناء عن نحو 1500 حافلة بكل ما كان يسببه دخولها للمشاعر من زحام وتلوث. ونقل القطار 18 ألف حاج أثناء النفرة من عرفات إلى مزدلفة كل 20 دقيقة، بمعدل 54 ألف حاج في الساعة الواحدة. وقد أحدث تشغيله نقلة كبيرة في كفاءة وسرعة نقل الحجيج، حيث غدت الرحلة بين عرفات ومنى تستغرق سبع دقائق. وقد زاد نجاح القطار من كفاءة نظام الترددية الذي اثبت أيضا كفاءة ملموسة في تيسير نقل الحجيج، بفضل التحسين الذي طرأ على توسيع الطريق البري الذي أصبح يتكون من أربعة مسارات لكل اتجاه، الأمر الذي رفع من كفاءة النقل أثناء التصعيد إلى عرفات والنفرة منها. ولنا أن نتصور مقدار ما سيسهم به هذا المشروع في حال مد خدماته لتصل إلى الحرم المكي، أو عند ربطه بقطار الحرمين السنة المقبلة، كما صرح وزير النقل، حيث يستطيع الحاج الانتقال من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة والعكس، فضلا عن إيصاله إلى محطاته في مطارات جدة والمدينة المنورة. لقد وصف المسؤولون الوضع العام للحركة المرورية في حج هذا العام بالمتميز في ظل التحسينات آنفة الذكر، ومنها الالتزام بقرار عدم دخول الحافلات التي تتسع لأقل من 25 راكبا إلى المشاعر، حيث لم يشهدوا الارتدادات التي كانت تشاهد في الأعوام الماضية؛ مما يؤكد وجود التزام كبير بالقرار. ومن التحسينات التي طرأت هذا العام ما كشفت عنه وزارة الشؤون البلدية والقروية من بدء تنفيذها مشروع تخليص المشاعر المقدسة من النفايات بالاعتماد على تقنية الشفط الآلي، عبر أنابيب ضاغطة ترتبط بشبكة لنقل النفايات إلى خارج مناطق الحجاج. وسيسهم هذا المشروع في نقل النفايات بطريقة سلسة دون الحاجة إلى دخول المعدات والآليات إلى المشاعر اعتبارا من موسم حج العام المقبل. ومن التحسينات ما جاء على لسان وكيل وزارة الحج الصديق حاتم قاضي، من تراجع نسبة الافتراش بشكل لافت قياسا على الأعوام الماضية بعد أن ترافقت الجهود الرسمية مع جهود منسوبي الأعلام في الحملة المتضامنة لرفع الوعي بين الحجاج. أما المشروع الخيري الذي يشرف عليه البنك الإسلامي للتنمية للإفادة من الهدي والأضاحي، فقد واصل نجاحاته للعام الـ 27، محققا أرقاما قياسية غير مسبوقة، مسهلا بذلك بلوغ مقاصد الشريعة في الإفادة من لحومها في الداخل والخارج، ومعظما هذه الشعيرة المباركة، ومقدما خدمات مريحة لحجاج بيت الله الحرام مكَّنتهم من التفرغ للعبادة وأداء مناسك الحج الأخرى. هذه معايير موضوعية تفسر أسباب نجاح موسم هذا العام، وأنا على يقين أن جميع العاملين يتطلعون لبلوغ الأفضل والأحسن والأكفأ عاما بعد آخر. نسأل المولى الكريم أن يجزي المخلصين منهم بما هم أهل له، وأن يمنّ عليهم وعلى حجاج بيته وعلينا من فيض بركاته وجميل ألطافه؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
إنشرها