Author

إلى الشرق .. دُرْ ! (4)

|
لو أن أحد الخبراء أراد أن يتوقع في أوائل القرن الـ19 عن القوة الاقتصادية التي ستفرض نفسها خلال العقود التالية لقال إنها قوة أوروبية. ولو قيل وقتها إن قوة اقتصادية أخرى في الطرف الثاني من المحيط الأطلسي ستفوقها أربع مرات, ستبزها بدءا من منتصف القرن العشرين، وستتراجع بعدها قوة الدول الأوروبية لصعب على كثيرين تصور ذلك، فالناس يحكمون بناء على ما تعودوه وألفوه. بدأ تفوق الاقتصاد الأمريكي يظهر مع نهاية الحرب العالمية الثانية, حيث خرج سليما من الدمار الذي لحق بأوروبا، وحيث تميز بامتلاكه التقنية العالية، ورأس المال الهائل، والقوة البشرية المؤهلة، والإدارة الكفؤة، فضلا عن حيازتها أكبر سوق عرفتها البشرية، فقد كانت سوقها أكبر تسع مرات من ثاني أكبر سوق حينها, وهي السوق البريطانية. وبالمثل كان للصين قبل خمسة قرون قوة علمية واقتصادية وعسكرية تفوق قوة أوروبا، ولو قيل حينها إن قوة الصين ستتراجع فى مقابل قوى أوروبية صاعدة، وأن الصين نفسها ستقع تحت الاستعمار الأوروبي بحلول القرن التاسع عشر لصعب تصديق ذلك! وعلى الرغم من وجود فوارق كثيرة بين حال الصين آنذاك وحال أمريكا اليوم، فإن بعض المراقبين الاقتصاديين اليوم يعتقدون أن وضع الولايات المتحدة المتراجع في وقت الناس هذا يشبه بداية تراجع قوة الصين قبل خمسة قرون .. لماذا؟ لعدة أسباب منها: 1 - كانت أمريكا متميزة ورائدة عالميا في برامج الإنفاق على البحث والتطوير، بيد أن هذا لم يعد صحيحا الآن! فالإنفاق الأمريكي اليوم في المجالات المدنية (غير الدفاعية) أقل مما كان عليه بكثير قبل 40 عاما. وأمريكا من دون الإنفاق العسكري تأتي اليوم في مرتبة متأخرة عشر مرات على الأقل بين الدول المتقدمة، ومن دون الإنفاق الحكومي بنوعيه المدني والعسكري؛ أي إذا حسبنا إنفاق القطاع الخاص فقط على برامج البحث والتطوير، فستحتل أمريكا المرتبة العشرين ضمن أول 23 دولة صناعية! واتضح أثر ذلك في تراجع دور أمريكا في براءات الاختراع مقارنة باليابان مثلا، وسيكون لهذا التراجع أثره التراكمي في مكانة الاقتصاد الأمريكي في العقود القليلة المقبلة. 2 - تراجعت نوعية وجودة نظام التعليم الأمريكي الذي تميزت به مقارنة بأقرب منافسيه (اليابان وألمانيا) بسبب تراجع الاهتمام بتدريس العلوم، في حين أن التقنيات الحديثة تتطلب اكتساب مستويات من المقدرة في علوم الرياضيات أكبر بكثير مما كان يحتاج إليه في الماضي. ومقارنة بنظرائها يتخرج عدد قليل جدا من المهندسين والعلماء في أمريكا قياسا لما كانت عليه قبل أربعة عقود. 3 - تراجع معدلات الادخار ومن ثم الاستثمار، وهذا من أسباب تراجع الإنفاق على البحث والتطوير والأصول الرأسمالية والبنى التحتية، فعلى سبيل المثال, أصبحت الاستثمارات في مجال البنى التحية أقل من نصف ما كانت عليه قبل 45 سنة، حتى أصبح جُلُّ هَمِّ الأمريكان الآن الحيلولة دون انهيار ما شيدوه سابقا. ومن الواضح أن البنية التحتية الجيدة ترتبط ارتباطا وثيقا بنمو الإنتاجية. 4 - لم تعد الموهبة والخبرة الإدارية الأمريكيتين أفضل بكثير من موهبة وخبرة بقية منافسيها، وإذا ما قيست بالنتيجة؛ أي بالعجز التجاري والنمو الضعيف للإنتاجية, خاصة في القطاع الأكبر الذي يسهم في تكوين الدخل القومي الأمريكي, وهو قطاع الخدمات، فسيغدو الاقتصاد الأمريكي الأسوأ. ولذا ليس غريبا أن تصنف الشركات الأمريكية في المرتبة 12 في مجال جودة السلع وتسليمها في الوقت المحدد، وكذلك في خدمات ما بعد البيع. كما صنفت الشركات الأمريكية في مراتب متأخرة جدا في مجال التدريب أثناء العمل كما وكيفا، وفي مجال امتلاكها لنظرة استراتيجية بعيدة عن المستقبل. لا أحد يدعي أن الاقتصاد الأمريكي يتدهور بشكل مطلق، بيد أن هناك تقهقرا ظاهرا وتخلفا بيّنا فيه عن ركب المنافسة الدولية. هناك مراقبون معتبرون يرون تدهورا في الأفق الأمريكي كالياباني: شنتارو إيشيهارا، بينما يعتقد الأمريكي لستر ثرو أن التنبؤات التي أوردها أوزوالد سبنجلر في كتابه ''انهيار الغرب'' تكاد تصبح حقيقة ماثلة. وفي الواقع، فإن مشكلات المنافسة الخارجية التي يواجهها الاقتصاد الأمريكي، إن هي إلا أعراض ظاهرية لمشكلة إنتاجية داخلية. إن البلاء الأمريكي من داخله! في النصف الثاني من القرن العشرين كانت أمريكا هي القاطرة المحركة للاقتصاد العالمي، وكان المنافسون في أوروبا واليابان (ثم في مرحلة لاحقة في كوريا والصين والهند) يكتفون برد الفعل. لقد بدأنا القرن الواحد والعشرين والولايات المتحدة ما زالت قوة عظمى, لكنها فقدت الريادة الهائلة التي كانت لها في النصف الثاني من القرن العشرين. وفي ظني، ليس هناك ما يدل على أن هذا الاقتصاد بنظامه وإمكاناته القائمة قادر على المحافظة على مكانة أمريكا كقوة عظمى. أمريكا غير معتادة رسم استراتيجيات قومية لمساعدة صناعاتها على اللحاق بالمنافسين المسيطرين في بقية أنحاء العالم. وقد يستمر التدهور لما هو أسوأ من ذلك خلال العقود المقبلة إذا انفضت عنها العقول وانتقلت منها مراكز الأبحاث والتطوير. وسيصبح الرهان على الدولة التي تعرف كيف تتعامل مع التغيرات العالمية المتسارعة.
إنشرها