Author

نمطية التفكير والحاجة إلى الإبداع

|
نشرت في هذا المكان قبل ثلاثة أسابيع مقالا بعنوان ''مدن القلاع والحصون''، طرحت فيه مجموعة من التساؤلات والرؤى حول التركيبة العمرانية للمدن السعودية، والتأثير الذي أوقعته آليات بناء المساكن وإحاطتها بالأسوار. ثم قامت إدارة الصحيفة مشكورة بطرح هذه الرؤية للنقاش، حيث تباينت ردود أفعال الإخوة القراء بين مؤيد ومعارض. هذا التباين بكل تأكيد ظاهرة صحية، تنم عن تطور المناخ الديمقراطي في النقاش، وقبول الرأي والرأي الآخر، على الرغم من حدة بعض التعليقات وخروجها عن النص. لكن ما لمسته في تلك التعليقات ومجمل التعليقات التي نراها حول مقالات كتاب الرأي في مختلف الموضوعات، هو تلك النمطية في التفكير التي تطبع معظم التعليقات، وغياب مقدرة التحليل والإبداع على طرح حلول خلاقة لما نعيشها من مشكلات. إن مهمة الكاتب تتركز بشكل أساسي على إبراز المشكلات التي يعيشها المجتمع وتواجه مسيرة التنمية، ووضعها على محك البحث والتحليل لتحفيز التفكير في تلك المشكلات، بهدف الخروج بحلول مبدعة لها، وتذليل المصاعب والعقبات التي تواجه مسيرة التنمية. لكن الملاحظ أن معظم تلك الجهود يقف عند عتبة استعراض المشكلات والحديث عنها بمفهوم الفضفضة أحيانا، والتجريم أحيانا أخرى، دون أن يتخطى النقاش هذه العتبة لطرح مبادرات إيجابية لحل تلك المشكلات، ودون أن تخلق لدى الجهات المعنية أي رد فعل سوى المواقف الدفاعية التي تسعى دوما إلى إبراز دور تلك الجهات ومقدار اهتمامها بحل تلك المشكلات، وأنها دوما على صواب في مواجهة خطأ الطروحات النقدية والتحليلية التي يتناولها الكتاب. عندما تحدثت عن ظاهرة الأسوار في ذلك المقال، والأثر الذي أحدثته في تحويل مدننا إلى مدن قلاع وحصون، وزرع الفرقة والانعزال الاجتماعي بين جيران الحي الواحد، والهدر الاقتصادي الناجم عن تلك الظاهرة، لم أعن بالضرورة القفز إلى حل وحيد بديل في إزالة الأسوار. هذا الفهم القاصر والنمطي الذي يفترض حلا وحيدا لأية مشكلة أنتج في هذه الحالة موقفا هجوميا من كثير من القراء، الذين افترضوا أنني أدعو إلى التنازل عن خصوصية الأسر السعودية، أو كشف العورات، أو تناسي المخاوف الأمنية في ظل ما نسمعه من حالات سرقة المنازل. ما كنت أدعو إليه في ذلك المقال هو مناقشة تحليلية لتلك الظاهرة، ودراسة جذورها ومسبباتها، ومن ثم الخروج بحلول مبدعة وخلاقة تحقق الانسجام مع متطلبات المجتمع وخصوصيته، وتعالج الآثار السلبية لتلك الظاهرة. وعلى سبيل المثال، كان من الممكن أن نطرح إمكانية السماح ببناء المساكن على حد الملكية الأمامي لكل قطعة أرض، بما يوفر مساحة الحديقة الأمامية غير المستغلة، ويوظفها في حديقة خلفية تتمتع بالخصوصية التامة لسكان المنزل. أو ربما السماح بجمع مساحات الارتداد على جانبي المسكن لتكون من جانب واحد فقط، بما يحقق توظيفا أفضل لتلك المساحات المهدرة، التي يدفع قيمتها صاحب المسكن من عرق جبينه، لتكون حديقة جانبية أو موقفا للسيارات، عوضا عن إيقاف السيارات في شوارع الأحياء بما يجعلها عرضة للسرقة والتعدي، ويشوه الشكل العام للأحياء. لست هنا بصدد إيراد كل الحلول الممكنة، لكنني أردت أن أورد أمثلة لنمط التفكير الذي أدعو إليه، والذي يتطلب بالضرورة الخروج عن المألوف، وتبني منهج إبداعي لمعالجة المشكلات والظواهر السلبية التي نعيشها، عوضا عن الاكتفاء بما ألفناه واعتدناه في حياتنا، وكأننا نسير على منهج ''بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون''. عندما نسترجع الموضوعات الرئيسة التي يتناولها الكتاب في الصحف السعودية، أو التي يتداولها الناس في المجالس، نرى أنها هي الموضوعات ذاتها المتداولة لفترة طويلة من الزمن. والغريب، أن الحالة هي الحالة ذاتها، والواقع هو الواقع ذاته، فما من مبادر يرفع راية الحل، ولا من بصيص ضوء في آخر النفق. تظل المقالات والمداولات والمناقشات تراوح مكانها وتدور في الفلك ذاته، وتصطدم كل تلك الجهود بجدار النمطية والتحجر والدفاع السلبي. كل تلك الأحاديث التي تشهدها أروقة المجتمع عن قضية الإسكان لم تنتج إلى الآن مبادرة جادة فاعلة لتقديم حل شامل لهذه المشكلة. نظام الشركات يعاني مخاضا عسيرا في أروقة التشريع استغرق حتى الآن ما يربو على ثماني سنوات دون أن يرى النور، ومثله أنظمة الرهن العقاري وتطوير أنظمة القضاء والتعليم وغيرها. الحديث عن مواطن الخلل في أداء الأجهزة الحكومية حديث مستمر، لا يعدو التعاطي معه حدود الاتهام المتبادل والدفاع السلبي. مظاهر الفساد والمحسوبية والواسطة تستشري يوما عن يوم دون وقفة جادة تعالجها وتجترها من جذورها. قضية قيادة المرأة للسيارة ما زالت خطا أحمر على الرغم من كل الطروحات التي تبرز أهميتها والحاجة إلى دراستها دراسة جادة ليس إلا. الأمثلة كثيرة مثل زبد البحر، وتمس جوانب حياتنا كافة، والأدهى أنها تعطل مسيرة التنمية وتهدر جهود الدولة، وتزيد عمق الإحباط لدى الناس. لا أدري ما السبب، وأجزم أنه ما من سبب وحيد لهذه الظاهرة، ولا هو بالضرورة أمر متعمد من أحد، ولا يقع تحت طائلة مسؤولية أحد بعينه، بل إنها ربما ثقافة المجتمع التي تفتقد روح المبادرة والإبداع، أو ربما ثقافة الخوف من التغيير والرضا بالواقع المألوف. أعتذر من الإخوة القراء عما قد يكون احتواه مقالي من إحباط لم أقصده، ولست ممن يشيعون الإحساس بالإحباط، بل إنني أدعو دوما إلى التفاؤل بمستقبل واعد أهم روافده وعلائمه حكم ملك صالح عادل مخلص محبوب. لكن التفاؤل المطلق مثله مثل الإحباط المطلق، كلاهما يقود إلى الخلل. ما هدفت إليه في هذا المقال هو أن أستثير لدى القراء الكرام نزعة للإبداع والتغيير والخروج عن المألوف. أجزم أنني لن أتمكن من تحقيق هذا التغيير بمقال وحيد ربما لن يجد حتى من يقرأه قراءة إيجابية، لكنني أجزم أيضا أن هذا التغيير سيأتي نتاجا لتغيير ثقافة النمطية والجمود. المشكلات التي نعيشها تتطلب حلولا مبدعة وخلاقة، تنبع في أساسها من رغبة خالصة ومخلصة في تنمية المجتمع والنهوض والارتقاء به، وترتكز على أسس من الثقة المتبادلة بين أركان المجتمع، حكامه ومواطنيه، مسؤوليه ومرؤوسيه، عامه وخاصه، نسائه ورجاله. وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.
إنشرها