Author

مفكرٌ للأمة.. (2 من 2)

|
.. وقد يخالفني أو يوافقني كثيرون بانتخابي لـ «محمود عباس العقاد» كمفكر أنموذجي للأمة المصرية، ويعزز ذلك هالة الإعجاب التي تصاحب عبقريته الموسوعية التي أشعّتْ بمعارفها على كل العالم العربي من غير أن يتلقى دراسةً منتظمة تُذكر. فقد كان ميزاناً شديد الدقة بين القديم والحديث، وفي التأصيل الديني، وبطريقته البحثية العميقة، وباستدلالاته اللامعة، ودعا إلى الانفتاح على الثقافات العالمية ولكن بعد التحصّن بالثقافة العربية والمقبولاتِ المصرية. ورعى بتصميم ثابت رؤيته للشكل السياسي والاجتماعي المناسبيْن لمصر، وكان شجاع الضمير، شفافَ الرأي، فصيح العزيمة. بينما كان صديقه اللدود «طه حسين» ينتشر، وتحتفل به أوساطُ الفكر بطقوسٍ أكبر، غير أن طه كان دوما صدامياً وصادِماً رغم أسلوبه الرائق المنزلق كنسيج من الحرير، فقد هدم ثوابت المجتمع المصري في كتابه المشهور عن «الأدب الجاهلي»، ودعا دعوة سافرة إلى ربطٍ لا ينفصم لمصر مع أوروبا وبالذات مع فرنسا التي لم يُخـْفِ ولعَهُ بها وبمفكريها وكاد يتوّج «ديكارت» نبراساً للعلوم، وله فصلٌ عجيب من السخرية موجهة لبعض شيوخ الأزهر في كتابه «من بعيد» عن رحلة ميتافيزيقيةٍ لديكارت على مجنـَّحٍ يعبر فيها جبل «قاف» وذهب في خياله الساخر بعيدا، ولولا قـُصْر باعي أمام شامخٍ فكري مثل طه حسين لقلتُ إنه تعدى السخرية إلى الهزء. ولا بد من الاعتراف بأن طه حسين غيّر من جلدِه كثيرا وأنتج مصنّفاتٍ إسلاميةً متتابعة مثل «على هامش السيرة» و»الشيخان» و»الوعد الحق» و»مرآة الإسلام» تغلبت فيها روحُه القاصّة وطغى أسلوبُه المزخرفُ المُرسَل. والدكتور «عبد الرحمن بدوي» فيلسوفٌ عظيم المعرفة، ولا أعرف أحداً يتجاوزه في سِيَر وتحليل الفلاسفة العمالقة وبالذات فلاسفة ألمانيا مجيداً للغتهم ومجاورا لعقولِهم ولكن غلبت عليه الروح الأكاديمية الجافة وتعب من التواصل مع الدوائر العلمية والاجتماعية لمزاجه الناري، فهو بركانٌ مستعدٌ دائماً لقذف الحمم، ومن الصعب أن يكون حكيما أو معلما لأمته فالصبرُ والتحمّلُ والأناة من أسس مواصفات المفكر. غير أن «زكي نجيب محمود» اشتقّ طريقاً واضحاً وجديداً في تثقيف بني أمته واتسم أسلوبُه بالجمال الأدبي وصاغ الفلسفة الصعبة في أشكال أنيقة ومفهومة، واللافت أنه طالـَبَ بيقظةٍ للعقل العربي بدون أن يمارس أو حتى يوحي بعلويةٍ فكريةٍ، أو أن يرتدي وشاحَ المعلمين. وساهمت شخصيتُه المتوارية الخجول في تقريبه لقرائه ولمتابعيه، فمن الصعب ألا تتأثر بأفكاره ونظرياته بعد قراءة كتبه والحقيقة أنه أراد عقلاً عربياً متصالحا مع العالم، ومتفتحا عليه وهاضما لمبررات تقدم مجتمعاته، واستلزم على هذا العقل أن يرتبط قاعدياً مع ثوابته الثقافية والحضارية والوجدانية، وميزة «زكي نجيب محمود» الذهبية هي توسطه وتوازنه وبعده عن أي مؤشّراتٍ للتعصب.. ولو لأفكاره ذاتها! .. ويهمنا في هذا التسلسل أن نصل إلى المجتمعات الخليجية، ويهمنا أمرُ مفكريها. وقد نقبل القولَ إن هذه المجتمعات لم تكتمل دوائرَها الثقافية، وإن الجذورَ التاريخية القريبة تنقصها بحكم تطور هذه المجتمعات الذي بدأ متأخرا قياساً بمجتمعات عربية أخرى، وهي نمتْ بتسارع مع الانتفاع من بدء الأعمال النفطية، إلا أن الواقعَ الآن يؤكد أن هذه المجتمعات هي الأكثر احتفاءً بالفكر وبالمفكرين ولا يجوز لأحد أن يقلل من هذا الواقع مع وجود الأدلة والشواهد. وتحتفي الأوساط السعودية الرسمية والفكرية بمفكر باحث وموسوعي نادر هو الشيخ «حمد الجاسر» - يرحمه الله - وقد ملأ رحابَنا الفكرية بثرواتٍ من إنتاجه الغزير، بل كرّس نفسَه في الآونة الأخيرة من حياته للضبط والتحقيق فيما يتصل بمواضيعه التي اهتم بها وكأنه يتجاوز حدودَ الفرد ليبزغ بذاته مؤسسة فكرية، وهذا الإصرارُ على تأطيرٍ دائم لأعمالِهِ في الأوساط السعودية أعطى هذا الانطباعَ بأن الجاسِرَ تجاوز بالنسبة لهم الحبّ إلى الرمز، وهذه أكثر صفات مفكر الأمة سموقا مع توافر جمالية كبيرة عند الجاسر والتقاء الآراء عموما حوله، إلا أن تواضعه الجم وتواريه الخجول وراء ظله الممتد، واستغراقه في بحوثِهِ وعدم خوضه في الشأن العام وقفت، بإرادتِهِ، دون أن يكون المفكر الذي نتحدث حوله، مع أن هذه الصفة ما تم توافقها مثل ما توافقت معه. ويبدو أن البحريني الدكتور «محمد جابر الأنصاري» مفكرٌ من الطراز المطلع الثقيل وله رؤىً ثقافية واستشرافية رائعة إلا أنه يتسم بالعموميات، وهو مفكرٌ كان يحلق دائما خارج سماه البحرينية والخليجية منذ كتاباته في المجلات اللبنانية قبل عقود إلى نمو الرغبة التأليفية لديه، وهو من عداد المفكرين الذين يملكون هذه الموهبة الخفية التي تعطي رؤيتهم وفلسفتهم بُعْداً مؤثّراً على العقلية العامة وهي هبة يمن الله بها على بعض عباده المختارين فتعطي هذا القبسَ من العبقرية الذي لا تزوده الكتب ومدرجات المحاضرات. إذن فمعظم مفكرينا ما زالوا مشغولين بتجربة العالم العربي بحواضره، ولم يتكون لدينا حتى الآن القالبُ الذي يخرج منه الفكر المؤثر على العقل العام المحلي، مع توافر باقة مفعمة من عقول ذكيةٍ وتحليليةٍ وعارفة.. إلا أنه ما زال ينقصنا في مجتمعاتنا الخليجية هذا الشيء الخاص.. ونحن كأمةٍ بحاجة إلى مفكرين شموليين يعلموننا كيف نربط الحداثة مع الماضي دون أن نسب تلك، أو نتعلق بأهداب الأخرى.. يعلموننا أن التاريخَ لا يقف، كما يعلموننا أن التاريخ أيضا لا يُقطـَع. يعلموننا كيف نتفاعل مع قضايانا الكبرى وكيف نفيدها لا أن يتقاتلوا بأفكارهم حولنا، ويتراجموا بآرائِهم فوق رؤوسِنا، فنزوغ فتجري عقولنا في منزلق يهوي بنا رغما عنا. أن يعلـّمونا كيف نتفق بعيداً عن التمزق الجدلي والهتافات، يعلموننا كيف اتفقت أوروبا الكاثوليكية البروتستانتية الأرثوذكسية المتعددة الإثنيات واللغات. يعلموننا كيف زُرِعَ هذا النبتُ الصهيوني الغريبُ في جسدِ الأمَّةِ ولم ترفضه مناعتـُها الطبيعية بل ظلّ يكبر ويستشري.. ويعلموننا ألاّ نكون سادةً فقط في تراشق التّهم حتى صار فنا وتجارة أحيت صحُفا وناساً وبرامج يقتاتون منها.. (!) كيف؟.. متى؟!
إنشرها