Author

سترى بحبـّةِ الرَّمْلِ عِظـَم المِجَرّة واتساعَ الوجود

|
* أهلا بكم في ''مقتطفات الجمعة'' رقم 361. *** * حافزُ الجمعةِ: ''وليم بليك'' الشاعرُ الإنجليزي الصوفي الغرائبي يقول في قصيدةٍ من أروع القصائد التي تقرأها بالإنجليزية، وأترجمها هنا، والترجمة تفقد الأصلَ روعتـَه: ضع على كفـِّكَ حبةَ رمْلٍ وزهـــــرةْ رمزا الجمال والصمودْ تأمل في الحبةِ والوردةِ وحلـّقُ بالفكرةِ والوعودْ سترى بحبةِ الرمل عِظـَم المِجَــرّةْ واتساع الوجودْ وبالزهرةِ تأمل فردوساً.. وأعِدْ الكـَــــرَّةَ بلا حدودْ وها قد حمَلتَ، بساعةٍ، على كفـِّك اللانهاية.. وحَمـَلـْتَ في آنٍ الخُلودْ! *** * ''وليم بليك'' شاعرٌ إنجليزي عاش حتى العقد الثالث من القرن التاسع عشر، احتار به نقادُ اللغة الإنجليزية، واحتار واصفوه فما صنّفوه، فهو يتجلى بالشعر ويغرق بصوفيةٍ غريبةٍ على الشِعر الأنجلوسكسوني، ويُحسَبُ على المدرسة الرومانطيقية وما أحسبه منها، إلا إن كانت ما بعد الرومانطيقية، وهو منظم في حياته كساعةٍ سويسرية، ولكنه تبـِع بل تقريبا أسس مدرسةً اشتهرت باسم ''الأناركيزم'' أي اللادولة، أي أنه يؤمن بالفوضى التي تخلق نمَطاً غير الدولة.. وهو موهوبٌ كنحّاتٍ وكرسّام وأعاد للهندسة القوطية ألـَقها، ولا تخلو كاتدرائية من تماثيله ورسومه الإنجيلية مع أنه لم يكن رجلاً قانِتا.. على أن أعظم قصصه ذات الدلالة أنه أحب زوجته كاترين ضد كل التوصيات لأنها أمية أو فلاحة، أو كما نقول هنا ''قرِوية''، ولكنه أحبها بشغاف قلبه، وتزوجها رغم الشامتين، ثم عكف على تدريسها في كل ما يعرف حتى قيل إنها فاقته في الشعر والرسم والنحت، وصارت تساعده في النحت والرسم ثم تفاجئه بأنها صنعت شكلا كاملا أكثر إتقانا، ولكنها كانت ترفض أن تضع اسمَها رغم إلحاحه، فهي تبرِّرُ في شعرٍ جميل على نمط الأهزوجة الإنجليزية: ''زوجي الحبيبُ يقول على ما تبدعين وقِـّعي، ألم يدرك للآن أني بضعةٌ منه وهنا موقعي!''. *** * وتأتيني هذه الرسالة من وضحى (وكتبتْ اسمها كاملا): أنا بنت عشت في البادية بشمال وسط المملكة في هجرةٍ صغيرةٍ حتى الثانية عشرة من عمري، ثم جاءتني أمي تخبرني يوما بأن ابن عم لنا يقطن المنطقة الشرقية يريد أن يعقد قرانه عليّ، احتججتُ وبكيتُ فقد كنت مجرد طفلة، ثم إنه جاء لمنطقتنا وصار يلاطفني ويلعب معي حتى تعلقت به تعلق الأطفال وهو يكبرني بأكثر من عشرة أعوام، بعد أشهر انتقلت معه لمدينةٍ بترولية، ولكنه لم يكن يتعامل معي كزوجة حتى أنهيت عامي الرابع عشر، حين صار أول تعاملٍ زوجي. وفي كل هذه المدة كان يعلمني القراءة والكتابة في وقتٍ واحدٍ بالعربية والإنجليزية.. والرسالة طويلة ولكني أريد منكم التركيز على هذا المقطع: ''والآن هو وقفَ عند شهادة البكالوريوس كما تطلبت بعثته من شركة أرامكو، بينما أنا الآن أحملُ شهادة الدكتوراه في التاريخ المقارن!''، وهي تهدُف بالرسالةِ أن أقابل زوجَها، ووجدته رجلا في كامل مواصفات الإنسان، بل عرفت أنه شاعرٌ ورسامٌ وأراني منحوتاتٍ خشبية له.. وهذا ما دعاني مباشرة للتفكير في الشاعر النادر ''وليم بليك''.. فمن منهما برأيكم أفضل؟! *** * في رأيي أن الإخلاص الأول يجب أن يكون للأسرة، فلو أخلص الرجل أو المرأة لأسرته فإن هذا بالتبعية المنطقية يخلق نظاما تواصليا وليس عشوائيا، فبينما ''بليك'' يرى أن الفوضى المنظمة هي التي تخلق مجتمعا فاضلا بالركينة الأمنية الفردية والحماية للملكية كما يقول، فإني أقول إن هذا هو التنظيم المنظم التلقائي فلا فوضى، بل انسجام وتتابع. فمن يُحسن تربية ابنه حُبّا به، سيخرج هذا الابنُ نافعاً لي أنا كشخص في المجتمع، ومن يهمل أولادَه ليسرقوا ويعتدوا ويروّجوا أو ينضووا في سراديب موحشة، فهو يضرني أنا كفرد في المجتمع، مصلحة عامة تنطلق من غريزة ورغبة إنسانيتين مباحتين ومنطقيتين بأن يكون الولاءُ الأولُ للأسرةِ لأن هذا الولاءَ سينتقل عبر شرايين الأسرةِ إلى المجتمع المحيط ثم إلى الأمّة.. فيظهر ولاءٌ حقيقي في النهاية للأمة وإن كان انطلق حماية وحبا من خلية من خلاياها.. وهنا أهمية الخلية الصحية والخلية المريضة في مدى عافية الجسد الإنساني أيضا ومرضه. *** * كتاب الأسبوع: والكتابُ تأصيليٌ فلسفيٌ تربوي وصوفي في تربيته من خلال التحامه مع عناصر الكون وتوازنه معه، وعنوانه: ''الوحدانية مع كل الحياة'' Oneness With All Life وممتع ومفيد للغاية وغذاؤه المعرفي والروحي يأتي شاعريا وعلميا معا فلا يمكن أن تضعه بيُسر، وأنقل لك هذه العبارة من الصفحة السابعة: ''لا تحسبنَّ نفسَك معزولاً في ظرفٍ معين يحتويك أسيئاً كان أم جيّداً فالخير هنا والشرّ مجرد وهم من تصور أذهاننا، فالكون Cosmos مترابطٌ جداً، وبالتالي ما أصابَك لا يمكن أن يكون عشوائياً لأن الكونَ منظمٌ ومتسلسلٌ بشكلٍ لا يمكن وصفه، وإن أردتَ أن تعرف ما أصابَك فعليك أن ترجع بشساعةٍ إلى أول نشأة الكون، ولن تستطيع. إن كلمة ''كوزموس'' ذاتها هي أتت من معنى النظام. إذن لا يمكن للعقل البشري أن يتعقب سببَ ظرفه، ولكن يمكن لهذا العقلَ أن يكون إيقاداً للمعةٍ تنيرُ طريقاً جديداً يفيده ويفيد الآخرين.. وينتظم في سلسلةِ أحداثِ الكون! * والمُهم: إنها سُنّة الوجــودِ، فشعبٌ لبــقــاءٍ، وآخر لنـَفــَـادِ فعلى الحادثاتِ أن تتوالى وعلينا الوقوف بالمرصادِ في أمان الله..
إنشرها