Author

الصحافة وآفة رواية الأخبار

|
قراءة بعض الأخبار أو التقارير التي تتناول موضوعات اقتصادية أو تربوية أو اجتماعية, تثير الفزع في نفس القارئ, خاصة أن بعض هذه التقارير أو الأخبار تشير إلى دراسة أو بحث علمي, وحالما يسمع المرء أو يقرأ كلمة بحث علمي يأخذ الأمر بمنتهى المصداقية ويثق بما يشير إليه الخبر أو التقرير. من الأمور التي كثيراً ما تتناولها الصحف ووسائل الإعلام, العنف الأسري والتحرش الجنسي سواء مع الأطفال أو حتى مع البالغين والكبار, ومثل هذه القضايا والأمور تثير الحزن عند قراءتها, بل ربما تثير الخوف والوجل على المستقبل الذي ينتظر المجتمع أو الأجيال القادمة, خاصة أن النسب التي تستشهد بها هذه الدراسات, أو ما يمكن اعتبارها دراسات, نسب مخيفة وتأخذ وضعاً تصاعدياً. الأخبار ذات العلاقة بالجرائم كالسرقات والقتل والاعتداء والخمور والمخدرات, تحتل مساحات كبيرة من اهتمام وسائل الإعلام, ولا ضير في ذكر هذه الأخبار ونشرها, حتى يعرف المجتمع بكل فئاته من مفكرين ومثقفين ومتعلمين وغير متعلمين, الواقع المحيط بهم والمجتمع الذي يعيشون داخله وينتمون إليه, لكن السؤال الواجب طرحه في مثل هذه الأمور هو: هل هذه الأرقام والنسب حقيقية أم أنه مبالغ فيها, أم أنها أقل من الواقع وربما الواقع أكبر مما ذكر أو عرض عبر وسائل الإعلام أو الدراسات التي تعرضت لمثل هذا الأمر؟ قرأت ذات مرة في إحدى صحفنا المحلية أن 22 في المائة من الأطفال يتعرضون للتحرش الجنسي, و23 في المائة يتعرضون خلال المرحلة الدراسية, ووردت نسبة 22 في المائة في العنوان وبخط عريض, بحيث إن من يقرأ العنوان يستقر في ذهنه أن ما ورد في العنوان يمثل حقيقة ولو قرأ تفاصيل الموضوع لزادت قناعته بصحة الأمر, خاصة أن الكاتب يستند إلى دراسة عملت من إحدى الباحثات في المملكة. كيف نتعامل مع مثل هذه التقارير أو الأخبار التي تستند إلى دراسات وبحوث حسب من كتب مثل هذه التقارير؟ في ظني أن الأمر في المقام الأول يستند إلى الباحث أو من أجرى الدراسة, التي اشتق منها هذا التقرير, فخبرة الباحث وتمكنه من صنعة البحث العلمي الرصين, وإلمامه بإجراءات البحث العلمي وأدواته, أمور لا بد منها للوثوق بما نقرأه أو نسمعه عبر وسائل الإعلام, فبعض الباحثين لديهم من الخبرة ما تمكنهم من إجراء دراسة ذات قيمة في مجالها, ويمكن الاعتماد على نتائجها, لأن بياناتها مستمدة من الواقع, ولأن العينة تمثل المجتمع خير تمثيل, وهذه نقطة في غاية الأهمية, إذ لا يمكن أن نسلم بصحة نتائج أي دراسة ما لم نتأكد من تمثيل العينة تمثيلاً دقيقاً كمياً وكيفياً. لذا نجد أن من حسن إجراءات البحث كي يكون بحثاً علمياً كون العينة ممثلة لكل الشرائح والفئات, وأماكن السكن من مدن وريف. وفي العام الماضي قرأت خبراً مفاده أن ظاهرة التحرش الجنسي بين البالغين في مصر بلغت حداً كبيراً بعد عيد الفطر المبارك, ومن يقرأ الخبر يحس بأن شوارع القاهرة أو مدن مصر وقراها وأريافها تحولت إلى ساحات تحرش جنسي, وكأن المجتمع المصري محروم من الجنس. لذا لا بد من التمييز بين الحالات والممارسات الفردية والممارسات التي تصل إلى حد الظاهرة, فالظاهرة تكون مضرة إن كانت ذات طابع سلبي كتدخين الأطفال أو استخدام المخدرات أو التحرش الجنسي سواء مع الأطفال أو البالغين, لكن ليس أي تصرف يشكل ظاهرة, فالظاهرة في المفهوم النفسي والاجتماعي توجد عندما يكون هناك انتشار وتكرار للسلوك أو الفعل من قبل أفراد كثر في المجتمع, وفي فترة زمنية محددة, إذ لا يمكن اعتبار عشر سرقات خلال عشر سنوات في مدينة كبيرة ظاهرة, بل مثل هذه الحالة سلوك فردي محصور في نفر محدود. والمجتمعات التي أخذت بناصية العلم والمعرفة جعلت من البحث العلمي الرصين أساساً لها في البناء والتطوير ومعالجة الظواهر ومكافحتها, وذلك بعد معرفتها بشكل صحيح ووفق أسس علمية وموضوعية, لذا أنشأت لأغراض البحث العلمي مؤسسات متخصصة تقوم بدراسة الظواهر, ورصدت لهذه البحوث والدراسات الشاملة أموالا وأوقافا تمكن الباحثين من إجراء الدراسات التي تكشف الظواهر وتبين أسبابها الحقيقية. إن نتائج بعض الدراسات لا يمكن تعميمه على المجتمع كافة, بل إن النتائج تكون محصورة في العينة التي خضعت للدراسة, لذا لا بد للمؤسسات الإعلامية من التنبه إلى هذا الأمر حتى لا يكون هناك خلط بين ما يمكن أن يكون ظاهرة وما يمكن وصفه بالممارسة محدودة النطاق.
إنشرها